شرح قصيدة البركة الحسناء للبحتري.

شرح قصيدة البركة الحسناء للبحتري



ما هي البركة الحسناء


البركة الحسناء بناها الخليفة العباسي أبو الفضل جعفر المعروف باسم المتوكل على الله، وتسمى البركة بالبركة الجعفرية نسبة إلى اسم الخليفة، كانت البركة عظيمة فقد خصها الشاعر البحتري بقصيدة طويلة يصف عظمتها وروعتها، شُيدت البركة بالقرب من قصر الحير وهو قصر للخليفة، وأُنشئت البركة لغرض التنزه، وكان نهر النيزك يغذيها بالماء، ونهر النيزك هو نهر أمر المتوكل بحفره، والبركة تقع في مدينة سامراء العراقية، وأصبحت البركة اليوم من الآثار، لكن بقيت قصيدة البحتري مخلدة لها ومصورة لكل تفاصيلها.

معاني المفردات في شرح قصيدة البركة الحسناء


كتب البحتري قصيدة البركة الحسناء، ووصف البركة وأراد الخليفة، وكان أسلوب الشاعر في القصيدة متقن، فتميزت القصيدة بعذابة الألفاظ ورقتها، أما الأسلوب الأدبي للقصيدة فكان بسيطًا بعيدًا عن الركاكة، وهذا يدلُ على سعة المخزون اللغوي عند البحتري، فجاءت التشابيه والاستعارات مقصودة في معانيها، ولم تكن سهوًا أو عفو الخاطر، ويمكن وصف القصيدة بالعذبة السلسة، والدليل على سهولتها خلوها من الكلمات الجزالة، وفيما يأتي شرح لبعض المفردات الغريبة، وغرابة المفردات بسبب العصر، ففي العصر الذي كُتب به القصيدة لم تكن هذه المفردات صعبة:

مغانيها: المنزلُ الذي غَنِيَ به أَهلُه.
الآنسات: الأنس هو صوت الفتاة الطيبة المحبوبة التي تؤنس بصوتها.
الكالئ: الحامي والحافظ.
السبائك: جمع سبيكة، وسبك أذابَ المعدن وخلصه من الشوائب وأفرغه في قالب.
الصبا: رياح تهب من مشرق الشمس.
الجواشن: الدروع.
عزاليها: مصَبُّ الماء من القربة ونحوها.

البحتري


أبو عبادة الوليد بن يحيي التنوخي الطائي من أشهر الشعراء العباسيين، بل جعله أبو العلاء المعري أشعر الشعراء في العصر العباسي، ويُعد البحتري والمتنبي وأبو تمام أشعر شعراء عصرهم، كتب البحتري قصيدة البركة الحسناء، والبركة الحسناء بناها الخليفة العباسي المتوكل على الله، فالبحتري كان شاعر البلاط، وعاصر الخليفة المتوكل على الله، وثلاثة خلفاء آخرين، وكانت علاقة البحتري مع الخلفاء وكبار الموظفين في الدولة علاقة وطيدة، لكن علاقة البحترى مع منبج في حلب كانت ليس مثلها أي علاقة، مع أن البحتري عاش حياة الترف في قصور الخلفاء لكن منبج احتلت مكانًا في قلبه، وكان يزورها بين الحين والآخر، كتب البحتري في جُل الأغراض الشعرية من مدح وافتخار وغزل وغيرها من الأعراض، لكن المديح أكثر غرض في شعره، له ديوان ضخم شرحه أبو العلاء المعري وسماه "عبث الوليد" وكان أبو العلاء محبًا للبحتري فعندما سُئل من أشعر الثلاثة؟ فأجاب أبو العلاء بأن أبا تمام والمتنبي كانا حكيمان، أما الشاعر فهو البحتري.


شرح قصيدة البركة الحسناء للبحتري


كتب البحتري قصيدة البركة الحسناء واصفًا جمال البركة وعظمتها، فكان رسامًا يرسم أجمل لوحة في كلماته، والبركة الحسناء بناها المتوكل، وكانت البركة تحفة عمرانية في وقتها، والغرض من وصف البركة ليس البركة بعينها بل مدح الخليفة المتوكل على الله، فكان البحتري في قصيدته دقيق التصوير مستخدمًا معانيه الرقيقة، محكمًا النظم، وفيما يأتي أبيات القصيدة مع شرحها:
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها

والآنسات إذا لاحت مغانيها

يبدأ البحتري قصيدته بأسلوب النداء، وذلك لينبه الناظر إلى الابتعاد بخياله إلى ما يحيط البركة من الجواري المؤنسات، والخضرة الرائعة، والمنازل المحيطة بالبركة، والنداء يُبدأ به للفت الانتباه عمومًا.

بحسبها أنه من فضل رتبتها 

تُعدُّ واحدة والبحر ثانيها

في الأمثال العربية يُضرب المثل بالبحر للدلالة على الكبر والاتساع، فالبحتري أراد أن يُعبر عن كبر واتساع البركة بجعل البركة الأولى والبحر الثاني، والمعلوم أن الأول متفوق على الثاني، والبحتري هنا كأنه يقول إن كانت البركة كالبحر -والبحر رمز العطاء والجود وكأنه يمدح الخليفة- فكيف بباني هذه البركة، وقد بنى البحتري الفعل تُعد للمجهول لأن الفاعل -البركة- معروف للسامع، وذلك لعظمته.

ما بال دجلة كالغيرى تنافسها 

في الحسن طورا وأطوارا تباهيها

بعد ذكر البحر ينتقل البحتري إلى النهر باستخدام أسلوب الاستفهام والذي كان الغرض منه التعجب، فالشاعر يتعجب من نهر دجلة أنه يغار من البركة، فمرة يغار من جمال البركة، ومرة يغار من عظمة البركة التي تباهي بها.

البحتري هنا ذكر النهر مع أنه سبق وذكر البحر، ولا مقارنة بين عظمة البحر والنهر، وذلك ليكمل رسم الصورة الفريدة للبركة، إذ إن مياه النهر عذبة صافية، ومياه البحر تفتقر إلى هذه الصفة، فكانت الصورة مكتملة، واستخدم البحتري التشخيص وأعطى البركة صفات الأشخاص من خلال الاستعارة، فالتباهي من صفات البشر، والتشخيص أعطى القصيدة حركة وبُعدًا جمالًيًا.

أما رأت كالئ الإسلام يكلأها 

من أن تعاب وباني المجد بانيها

يُعد هذا البيت معترضًا بين أبيات القصيدة وقد أدرجه البحتري لمدح الخليفة المتوكل على الله، وبدأ البحتري بالاستفهام والغرض منه التقرير، وهو يجيب على السؤال الوارد في البيت السابق الذي وجهه الشاعر إلى نهر دجلة، الجواب بأن البحيرة لا تقارن بأي شيء، لأن راعي الإسلام وحاميه هو من بناها، والمدح للخليفة هنا بإعطاءه صفة الحامي لدين الله.

تنصب فيها وفود الماء معجلة

كالخيل خارجة من حبل مجريها

في هذا البيت تشبيه، فالبحتري يصف المياة المنصبة في البركة، و يشبهها بالخيل التي تُركت حبالها فانطلقت بأعلى سرعة، ووجه الشبه السرعة، والبحتري شبه المياه بالخيل وليس بشئ آخر لأن الخيل تدلُّ على الخير عند العرب، وقد قال النبي الكريم "الخيل معقود في نواصيهاالخير"

كأنما الفضة البيضاء سائلة

من السبائك تجري في مجاريها

يكمل البحتري وصف المياة الجارية، ويشبهها بالفضة المذابة من السبائك، وجاء بكلمة السبائك لأنه في السبيكة يكون المعدن صافي من دون أي شوائب، والغرض من تشبيه المياه بالفضة هو إظهار صفاء المياه ورونقها.

إذا علتها الصبا أبدت لها حبكا

مثل الجواشن مصقولا حواشيها

يصف البحتري مياه البحيرة عند هبوب الرياح الشرقية -والرياح الشرقية هي مبعث للذكريات عن الشعراء- فعند هبوب الرياح فوق البركة تتكسر صفحة المياة، فتصنع أشكالًا تشبه الدروع، والبحتري يذكر الدروع والخيل والفضة للدلالة على كرم وعظمة وشجاعة صاحب البركة وهو الخليفة المتولك على الله.

فحاجب الشمس أحيانا يضاحكها

وريق الغيث أحيانا يباكيها

يرسم البحتري صورة البركة على مدار فصول العام، فهي متفاعلة مع الطبيعة، فهي تُضاحك الشمس وتباكي الغيث والمطر، ففي هذا البيت تشخيص من خلال الاستعارة، فالشاعر استعار صفة الضحك والبكاء من الإنسان وأعطاها للبركة.

إذا النجوم تراءت في جوانبها

ليلا حسبت سماء ركبت فيها

في هذا البيت يصف الشاعر كبر وعظمة البركة، فعند ظهور النجوم في السماء تنعكس صورة السماء على البركة، فيعتقد الرائي أن نجوم السماء قد رُكبت على سطح البركة.

لا يبلغ السمك المحصور غايتها

لبعد ما بين قاصيها ودانيها

يكمل الشاعر وصف عظمة البركة، فيقول إنَّ السمك الذي في البركة لا يستطيع أن يصل بين طرفيها، وهنا مبالغة رائعة للدلالة على عظمة واتساع البركة.

يعمن فيه بأوساط مجنحة

كالطير تنفض في جو خوافيها

في هذا البيت يصف البحتري الأسماك في البركة، ويُشبهها بالطيور، وهذه الأسماك تسبح في البركة بتحريك زعانفها كما تُحرك الطيور أجنحتها، وهذا الوصف جاء للدلالة على عمق البركة، فالطيور عندما تطير ترتفع وتنزل، وكذلك السمك في البركة.

لهن صحن رحيب في أسافلها

إذا انحططن وبهو في أعاليها

يقول الشاعر في هذا البيت إنَّ للأسماك صحن في أسفل البركة كما هو في أعلاها، والشاعر هنا يريد أن يُعبر عن اتساع البركة، فهي ليست واسعة من سطحها فقط، فحتى أسفل البركة واسع.

صور إلى صورة الدلفين يؤنسه

منه انزواء بعينيه يوازيها

الشاعر يريد أن يخبر المتلقي أنه أمام البركة يوجد تمثال الدلفين، هذا الدلفين يؤنس الأسماك التي تسبح في البركة وتطمئن بالنظر إلي عينيه.

تغنى بساتينها القصوى برؤيتها 

عن السحائب منحلا عزاليها

هذه البركة لعظمتها تغنت البساتين المحيطة بها، لما لهذه البركة من عظيم النفع على البساتين، فالبركة تسقي البساتين بالماء المنهمر، وكأن الشاعر يقول إن كانت البركة معطاءة كريمة فكيف بمن بناها وهو الخليفة المتوكل على الله.

محفوفة برياض لا تزال ترى

ريش الطواويس تحكيه ويحكيها

يختم الشاعر وصفه للبركة ويقول، هذه البركة محفوفة بالأشجار من كل جانب، وهذه الأشجار كثيفة متنوعة، فكأنها تُشبه ريش الطاووس بزهوها وألوانها الجميلة.

لقد أتقن البحتري وصفه للبركة فرسم صورة لا مثيل لها، فأبدع واختار ما يشبه به بدقة وعناية، فكانت قصيدة خالدة إلى يومنا هذا ترددها الألسن وتتمنى الأعين رؤية البركة كما كانت في سالف عهدها.


No comments:

Post a Comment