مقالة جدلية : هل إدراكنا للأشياء يتوقف على التجربة الحسية ؟
الطريقة : جدلية
مقدمة:
مما لا شك فيه أن الإحساس هو عملية نفسية فيزيولوجية، ترتبط في أساسها على جملة من الحواس، وهذه الحواس تنقل إلينا صور مجردة من أي معنى، ولكن بعد وصولها إلى الدماغ عن طريق الأعصاب، تتم عملية تأويل جميع تلك الصور، وذلك بتحليلها وفهمها عن طريق العقل، وبالتالي فهناك مرحلتين، مرحلة أولى: والتي نعتمد فيها على الحواس للاتصال بالعالم الخارجي ونطلق عليها بالإحساس، ومرحلة ثانية: والتي يتم فيها الحكم على الأشياء وبناء رد الفعل، ونطلق عليها بالإدراك، لكن طبيعة الإدراك قد أثيرت حولها تساؤلات : فهل إدراكنا للأشياء يتوقف على الحواس أم العقل؟
التحليل :
الموقف الأول:
يرى المذهب الحسي أن إدراك الإنسان للأشياء يتوقف على التجربة والإحساس، وليس على العقل والإدراك المجرد ، فقد ذهب الرواقيون قديما إلى أن مقياس المعرفة الحقة ليس تلك الأفكار التي كوناها بأنفسنا وصنعناها بأذهاننا ، بل لابد من العودة إلى المصدر الذي استقينا منه أفكارنا الكلية أي التجربة الحسية، لأن نفس الطفل كما يرى الرواقيون لا تشتمل على أي نوع من المعارف المسبقة أو الفطرية فهو يبدأ في تحصيلها بعديا شيئا فشيئا بواسطة خبرته الحسية. كما ذهب الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" إلى أن الإنسان لا يصل إلى المجرد إلا بالانطلاق من الملموس، حيث قال : " الحواس والمدارك هما النافذتان اللتان ينفذ منهما الضوء إلى الغرفة المظلمة ( أي العقل ) ". كما قال أيضا : " ليس في العقل شيء جديد إلا وقد سبق وجوده في الحس أولا " لأن من فقد حاسة فقد المعاني المتعلقة بها. ويتفق الفيلسوف الانجليزي "دافيد هيوم" مع لوك في رد الإدراك إلى الإحساس، إذ حصر مفهومه في نطاق الانطباعات الحسية الناتجة عن تأثر الأعضاء الحسية بخصائص الأشياء.
مناقشة:
هذا المذهب لم يبحث في جوهر الإدراك،لأن الاعتماد على الحواس لا يمكننا من معرفة كل عناصر الموضوع بدقة، كما أن هذه الحواس قد تخدعنا أحيانا، وهذا ما أكده "ديكارت" بقوله : " كل ما تلقيته حتى الآن على أنه أصدق الأشياء وأوثقها قد تعلمته من الحواس، أو عن طريق الحواس، غير أنني اختبرت أحيانا هذه الحواس فوجدتها خداعة ". كما أننا إذا أخذنا بهذا الموقف فكيف نفسر بعض المفاهيم كمفهوم الكتاب الذي يتصوره العقل خالصا من صفاته الثانوية المتغيرة، في الواقع كل كتاب له: شكل، لون، حجم، أما من حيث تصور الكتاب في العقل هو مرجع للمعرفة، فهذه الصورة يدركها العقل دون أن تمر بالحواس.
الموقف الثاني:
يرى المذهب العقلي أن الإحساس لا يمدنا إلا بمعارف أولية، في حاجة دائمة إلى صقل وتجريد عقلي ، ففلاسفة اليونان الكبار أمثال "سقراط" و"أفلاطون" يرون أن الإحساس وحده لا يحقق معرفة مجردة ، بل الإحساس يثير العقل لتحقيق معرفة مجردة فكثيرا ما تكون المعرفة الحسية خاطئة أو غير كافية في ذاتها ، لأن الاقتصار على شهادة الحواس يؤدي إلى نتائج غير صحيحة ، وقيمة الإحساس تكمن في أنه يقوم بتنبيه وإثارة نشاطاتنا العقلية لنصل بطريقة غير مباشرة إلى المعرفة المجردة وهي المعرفة الحقيقية . كما ذهب الفيلسوف الفرنسي "ديكارت" إلى عدم إنكار الإدراك الحسي تماما، ولكنه قد قلل من إسهاماته في المعرفة مقارنة بالإدراك المجرد القائم على العقل . وقد قال : " العقل هو أحسن الأشياء توزعا بين الناس، إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية، وهو يتساوى بين كل الناس بالفطرة "، كما قال أيضا : " أنا أفكر إذن أنا موجود ".
مناقشة :
لكن إذا كان الإحساس هو الجسر الذي يعبره العقل أثناء الإدراك، فإن ذلك يعني بالضرورة أن للإحساس وظيفة يؤديها في عملية الإدراك، وبدونه يصبح الإدراك فعلا ذهنيا مستحيلا، أي كل إدراك يحمل في ثناياه بذورا حسية متنوعة. كما أن الواقع يؤكد عكس ما يقول به المذهب العقلي لأن الطفل الصغير يبدأ في اكتشاف هذا العالم من خلا الأصوات والألوان والأشكال، زد على ذلك إذا كان العقل هو مصدر الإدراك وهو مبدأ فطري في الإنسان، فلماذا لا نملك جميعا نحن البشر نفس المعارف.
التركيب :
لقد استطاع الفيلسوف الألماني "كانط" أن يتجاوز مشكلة التعارض بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي، حيث ذهب إلى أن عالم الأشياء كما تنقله لنا الحواس هو في الأصل شتات معرفي ، لا يمكن فهمه، والعقل هو الذي يجمع ويربط بين هذا الشتات، لذا فكانط يرى أن المعرفة ما هي إلا تأليف يقوم على معطيات الحواس وفعالية العقل، حيث يقول : " المفاهيم بدون حدوس حسية تظل جوفاء، والحدوس الحسية بدون مفاهيم عمياء ". كما كان لنظرية الجشطالت رأي آخر حيث ذهبت إلى أن الصيغة أو الشكل والأرضية التي يكون عليها الموضوع، هي التي تحدد طبيعة إدراكنا، فصيغة الشيء أو شكله وأرضيته له علاقة وطيدة في الكيفية الإدراكية ويؤثر مباشرة في إدراكنا. وكذا بالنسبة للنظرية الظواهرية التي ذهبت إلى أن إدراك العالم الخارجي يقع تحت سيطرة الشعور، فالإدراك يقترن بفاعلية الشعور، ومادام الشعور يتغير فإدراكنا يتغير رغم ثبات موضوع الإدراك أي الشيء المدرك.
الخاتمة :
في الأخير يمكن أن نؤكد أن الإدراك لا يمكن حصره لا في العقل وحده ولا في التجربة الحسية وحدها، بل هو تأليف يقوم على معطيات الحواس وفعالية العقل ، لذا فمن باب منطق الاعتدال والموضوعية أن نصرح بموقف الفلسفة النقدية التي يتزعمها "كانط" حيث ترى أن أصل المعرفة هو اتحاد العقل والتجربة معا، فكانت المعرفة عنده عقلية بقدر ما هي حسية.
bravau
ReplyDelete