TIME
00:49
مجموعة كبيرة من المقالات الفلسفية جاهزة لشعبتي علوم تجريبية و رياضيات - الجزء الثاني -
المشكلة الأولى : في فلسفة الرياضيات
مقارنة بين الرياضيات الكلاسيكية والرياضيات المعاصرة
طرح المشكلة :تعتبر الرياضيات مفاهيم عقلية مجردة بعيدة عن المحسوس مرت بعدة منعرجات أهمها الثورة العلمية على المفاهيم الكلاسيكية في القرن 19 الأمر الذي جعل هناك اختلاف بين الرياضيات الكلاسيكية والرياضيات المعاصرة وهذا ما يجعلنا نتساءل عن العلاقة بين هما،ماهي العلاقة بين الرياضيات الكلاسيكية والرياضيات المعاصرة؟
محاولة حل المشكلة :
1 ــ أوجه التشابه :
ــ كلاهما يعتمد على مبادئ عقلية بعيدة عن المحسوس
ــ كل منهما ساهم في تطوير العلم
ــ كل منهما يعتمد على البرهنة
2 ــ أوجه الاختلاف :
ــ الرياضيات الكلاسيكية تعتمد على المبادئ الثلاث هي البديهيات والمسلمات والتعريفات أما الرياضيات المعاصرة فتعتمد على لأوليات
ــ موضوع الرياضيات الكلاسيكية هو الحكم المتصل والمنفصل أما الرياضيات المعاصرة تميزت بظهور هندسات جديدة لاإقليدية (ريمان و لوباتشفسكي)
ــ المفاهيم عند الكلاسيكيين هي مفاهيم فطرية أما المفاهيم الرياضية عند المحدثين فهي تستند إلى فعالية العقل في بناء الموضوعات الرياضية
ــ المنهج في الرياضيات الكلاسيكية قائم على التحليل والتركيب أما المنهج في الرياضيات المعاصرة هو منهج أكسيومي (فرضي استنتاجي)
3 ــ مواطن التداخل :
ــ تعتبر الرياضيات الكلاسيكية أرضية مهدت لوجود الرياضيات المعاصرة بدليل الإرتباط الوثيق بينهما والعلاقة الموجودة بينهما هي تكامل
حل المشكلة:
الرياضيات المعاصرة لا تهدم الرياضيات الكلاسيكية بل تختلف عنها من جهة العقلانية التي تستند إليها.
مقارنة بين الرياضيات و المنطق
المقدمة:أـ تمهيد:إشارة إلى العلوم المختلفة التي أبدعها الإنسان و التي من بينها العلوم العقلية كالمنطقوالرياضيات.
ب ـ طرح الاشكال: إذا كان المنطق و الرياضيات من العلوم العقلية فهل هما متفقان أم وراء هذا الاتفاق الظاهري اختلاف جوهري؟
محاولة حل المشكلة
1ـ أوجه الاتفاق:هما إنتاج عقلي
ـ يهتمان بدراسة المواضيع المجردة (الفكر و الكم)
ـ يتفقان في المنهج(استنتاجيان)
2 ـ أوجه الاختلاف: ـالرياضيات:
ـ التعاريف والبديهيات في الرياضيات أكثر.
ـ الرياضي حر كأن يمدد الخطوط ينصف الزوايا...
ـ الرياضيات يمكن أن تكون استقرائية ايضا
ـ الرياضيات منتحية و الخصبة ( بونكاري، غوبلو، )
ـ نتائج الرياضيات صحيحة دائما لأنّها تعتمد على قضايا سبق التسليم بها و تدرس قضايا مجردة لا علاقة لها بالواقع.
ـ تاريخيا الرياضيات ظهرت في القرن ال6 ق م هذا عند اليونان فقط.( على طاليس)
ـ العلاقة في الرياضيات هي علاقة مساواة أو عدم مساواة.
ـ الرياضيات تستعمل الرموز.
ـ موضوعها الكم المجرد بنوعيه المتصل و المنفصل
أمّا المنطق:
ـ التعاريف قليلة و البديهيات 3 فقط (ما يصدق على الكل يصدق على الجزء، المساويان لثالث متساويان، مبدأ الهوية)
ـ المنطقي مقيد بمقدمتين و بشروط.....
المنطق استنتاجي دوما.
ـ المنطق عقيم و مصادرة على المطلوب (ابن تيمية،القول ، ج س مل).
ـ المنطق لا يكون صحيحا إلا وفق الشروط أو القواعد العامة والخاصة كما يرى أرسطو.
ـ المنطق ظهر في القرن ال3 ق م على يد أرسطو.
ـ العلاقة في المنطق هي علاقة استغراق أو عدم استغراق.
ـ المنطق يستعمل الألفاظ.
ـ موضوع المنطق الفكر السليم.
3/ مواطن التداخل: إن كل من المنطقي و الرياضي لا يفعل أي شيء إذا لم يعتمدعلى مبادئ العقل، و يمكن أن يعتمد المنطق على الرياضيات باستعارته لرموزها(المنطق الرياضي ) و الرياضيات المعاصرة استعملت المنطق أساسا لها و هذا ما سمح بظهور النسق الأكسيومي. إذن فالعلاقة هي علاقة تكامل.
حل المشكلة:
إن الرياضيات رغم من طابعها التجريدي فإنها تدرس الكون و تـقيسه قياسا كميا وبذلك ساعدت على تطور المعرفة العلمية التي تتصف بالكمية. و المنطق يهتم بالفكر و يصونه من الوقوع في التناقض، فبواسطة المنطق يكون فكرنا سليم، و يكون أداة لا قناع الآخرين و إيضاح للمعارف... و عليه كلا العلمين أداة في تطوير معارف الإنسان و خدمته.
مقارنة بين الرياضيات و العلوم التجريبية ؟
المقدمة :
أ\ تمهيد : يبدو من الوهلة الاولى أن الرياضيات ذات الطابع العقلي تختلف عن العلوم الطبيعية التجريبية ...
ب / طرح الاشكال : فهل هناك علاقة بينهما رغم هذا الاختلاف ؟
محاولة حل المشكلة:
أ ـ اوجه الاتفاق :1 ـ نشأت الرياضيات نشأة حسية الهندسة عند الفراعنة و الطفل و البدائي، مثلها مثل العلوم الطبيعية
2 كل منهما نتاج تفكير،ـ يصلان الى نتائج،ـ يكونان مفاهيم، ـ يكتشفان قوانين
3 قوانين العلوم و قواعد الرياضيات تتسم كلها بالتعميم ، ولا تقف عند الجزئية الواحدة .أرسطو :"لا علم الاّ بالكليات"
.4 لغتهما معا رموز.
ب ـ اوجه الاختلاف : الرياضيات ـ موضوعها مجرد ، ـ منهجها استنتاجي و قد يكون استقرائي ، ـ طابعها تجريدي ، ـ قضاياها تحليلية و في نفس الوقت تركيبية، ـ الصدق فيها صوري ، ـ تتصف بالدقة و اليقين اكثر .
أما العلوم الطبيعية : ـ موضوعها مادي ، ـ منهجها استقرائي دوما، ـ طابعها تجريبي ، ـ قضاياها تركيبية ، ـ الصدق فيها واقعي تجريبي ، ـ تتصف بدقة و يقين أقل .
ج ـ مواطن التداخل : ان العالم الطبيعي يتاثر بالرياضي حينما يصوغ قوانينه بشكل رياضي و الرياضي يزداد يقينا حينما تثبت التجربة صحة استدلاله <عد الى تاثير الرياضيات في العلوم >كما أن المفاهيم الرياضية تصورات خاوية ما لم تجسد في العلوم .
حل المشكلة : ان العلم في تطور نحو الدقة و الضبط و مرد ذلك الى الاستعانة بالرياضيات ، و الرياضيات كانت لها قيمة لحاجة العلوم اليها و عليه فهما متكاملان .
مقارنة بين الحقيقة الرياضية عن الحقيقة التجريبية ؟
المقدمة : إن غاية العلوم المختلفة هي الوصول إلى حقائق، تختلف باختلاف طبيعة الموضوع فتكون مجردة كما هو الحال في الرياضيات، أو تجريبية كما هو الحال بالنسبة لعلوم المادة . فما الذي يميز الرياضيات عن علوم المادة ؟و ما الفرق بين الحقيقة الرياضية والحقيقة التجريبية ؟
محاولة حل المشكلة:
أوجه الاختلاف : تهتم الرياضيات بدراسة المفاهيم العقلية المجردة القابلة للقياس أما علوم المادة، موضوعها الظواهر الطبيعية المختلفة الجامدة منها والحية.
إن اختلاف الموضوع يؤدي إلى اختلاف المنهج بحيث أن منهج الرياضيات منهج عقلي استنتاجي، يقوم على استخراج النتائج من المقدمات اللاّزمة عنها لزومًا ضروريا ومنطقيا.لأن معيار الصدق في الرياضيات هو تطابق الفكر مع ذاته دون مراعاة الواقع. أما منهج العلوم الطبيعية فهو منهج استقرائي ينتقل فيه العالم من دراسة العينات إلى استخلاص القوانين وتعميمها. وهو منهج يعتمد على خطوات أساسية :
من ملاحظة – فرضية – تجربة وقانون. وعليه فإن طريقة الرياضي استنتاجية ينتقل فيها من العام إلى الخاص، أما طريقة العالم فهي استقرائية ينتقل فيها من الخاص إلى العام.
إن نتائج الرياضيات يقينية ثابتة لآن موضوعها المفاهيم العقلية المجردة ، التي لا يطرأ عليها أي تغيير في حين أن نتائج علوم المادة ، نسبية متغيرة لآن موضوعها هو الواقع النسبي المتغير. وبما أن معيار الصدق فيها تطابق الفكر مع ذاته ومع الواقع كانت نتائجها نسبية متغيرة. لهذا يقول " كلود برنار" : إن مبدأ العالم الرياضي يصير مبدأ مطلقا لآنه لا ينطبق على الواقع الموضوعي كما هو، ولكن على علاقات الأشياء المأخوذة في شروط بسيطة يختارها الرياضي ويخلقها في فكرة بشكل من الأشكال.لكن هذا الاختلاف لا يعني عدم وجود عناصر مشتركة بينهما.
أوجه الشبه : كل من الرياضي وعالم المادة يفترض، ثم يستدل على صحة ما افترض، وكلاهما ينطلق من فكرة يعرفها العقل.
حل المشكلة :إن الرياضيات تعتبر مثل أعلى لجميع العلوم الواقعية التجريبية . نظرًا لدقتها ويقينها.ولذا تصاغ كل القوانين العلمية في قالب رياضي . وكمي، كما هو الحال بالنسبة للفيزياء، كصياغة "غاليلي" لقانون سقوط الأجسام في لغة رياضية. وكذلك" مندل "عندما صاغ قوانين الوراثة على شكل نسب مئوية....إلخ. ومنه فإن التعارض بين الرياضيات وعلوم المادة تعارض زائف لهذا رفض" غاستونباشلار" الفصل بينهما.
هل يمكن إرجاع الرياضيات إلى أصول منطقية ؟
طرح المشكلة : تعتبر الرياضيات علم الكم المجرد سواء كان هذا الكم منفصلا أو متصلا ، ونقصد بالأول العداد والتي هي موضوع الجبر والحساب ونقصد بالثاني الخطوط والأشكال والتي هي موضوع الهندسة ، وتعتمد الرياضيات في دراستها علم المنهج الاستدلالي بالطريقة الاستنتاجية التي يعتمد عليها القياس المنطقي، فهل يعني هذا أن الاستدلال الرياضي هو مجرد صورة للاستدلال المنطقي ؟
محاولة حل المشكلة :
1 القضية : يرى المنطقيون أن الاستدلال الرياضي يعتمد على الاستدلال المنطقي وذلك من حيث الصورة البنائية ذلك أن الاستدلال الرياضي ينطلق من عملياته البرهانية من المبادئ إلى نتائج ، وهي نفس الصورة البنائية التي يعتمد عليها القياس المنطقي وإذا كنا في القياس المنطقي ننطلق من مقدمتين كبرى وصغرى للوصول إلى نتيجة فإننا في الاستدلال الرياضي ننطلق من مبادئ الرياضيات المتمثلة في ـ التعريفات ـ البديهيات ـ المسلمات لنصل من خلالها إلى حل المسائل الرياضية أو المعادلات ، إذا لم تكن س هي نفسها س في جميع مراحل البرهنة وفقا لمبدأ الهوية ، كما أن التفكير الرياضي لا يقبل التناقض اعتمادا على مبدأ عدم التناقض وهو يظهر جليا باعتماد الرياضيات على المنطق وهو ما جعل راسل يقول : ( المنطق هو شباب الرياضيات)
** مناقشة : إن هذه المقاربات لا تعني بالضرورة اعتماد الرياضيات على المنطق لا من حيث السبق التاريخي ولا من حيث الطبيعة الإنتاجية للاستدلال الرياضي واعتماده على اللغة الرمزية بالإضافة إلى الاستعمالات المتعددة في حين أن استعمال المنطق يبقى محصورا في مجالات محددة
. نقيض القضية : تظهر استقلالية الاستدلال الرياضي على القياس المنطقي من خلال الخصوبة التي تتمتع بها الرياضيات من حيث تعدد المبادئ وتطورها وعمق العمليات البرهانية وتعدد نتائجها مقابل العقم الموجود في المنطق بحيث أن نتائجه لا تأتي بجديد ، بل هي مجرد تحصيل لما هو حاصل كما أن الرياضيات تعتمد على لغة رمزية و هي أساس الدقة التي يمنع بها التفكير الرياضي في حين يعتمد المنطق على اللغة الطبيعية والتي تحدث باسمها المغالطات ، بالإضافة إلى مجالات الاستعمال بحيث يقتصر استعمال المنطق في المجالات الكلامية والأفكار المجردة والأقيسة الفكرية والعقائدية بينما تستعمل الرياضي في مجالات واسعة تكون من خلالها المفاتيح التي تعتمد عليها جميع العلوم الطبيعية والرياضية . منا قشة: إن هذا التمايز بين الرياضيات والمنطق لا ينبغي على الرياضيات اعتمادها على المنطق في جميع عملياتها البرهانية .
التركيب : إن ظهور المنطق الرياضي الذي يعتمد على لغة رياضية رمزية يبين لنا مدى التكامل بين التفكير الرياضي والتفكير المنطقي خاصة وأنهما يشتركان في الطبيعة التجريدية
حل المشكلة :ومن هذا تستنتج أن الأصل المنطقي للاستدلال الرياضي يتمثل خاصة في الصورة الأستنتاجية التي يعتمد عليها البرهان الرياضي وهو صورة منطقية فلا يمكن أن نقيم البرهان الرياضي بدون احترام قواعد المنطق ، ولكن لا يعني هذا أن نحصر الرياضيات في حدود وضيفة المنطق .
هل أصل الرياضيات العقل أم التجربة ؟
طرح المشكلة :لقد أولع الإنسان منذ الزمن الغابر على طلب الحقيقة بكل أصنافها ؛ منها النمط الفلسفي و النمط العلمي و أعظمها شأنا النمط الرياضي ، الذي واكب كل تطورات الإنسان عبر العصور و ميز أعظم الحضارات بقوتها المادية ، لكن التفكير الفلسفي - سيد المعارف في العصور القديمة و العصور الوسطى – اهتم بالمعرفة الرياضية اهتماما تعلق بمناهجها ، بمنطلقاتها ، و قبله تساءل حول نشأتها ؛ فانقسم المفكرون في تفسير نشأة المفاهيم الرياضية إلى نزعتين ، نزعة عقلية أو مثالية يرى أصحابها أن المفاهيم الرياضية من ابتكار العقل دون التجربة ، ونزعة تجريبية أو حسية يذهب أنصارها إلى أن المفاهيم الرياضية مهما بلغت من التجريد العقلي ، فإنها ليست من العقل في شيء ، بل يكتسبها الإنسان عن طريق تجاربه الحسية . فما حقيقة الأمر؟ فهل المفاهيم الرياضية في نموها انبثقت من التجربة أم من العقل ؟ أي الفريقين على صواب ؟
محاولة حل المشكلة :
1 - الأطروحة : إن المفاهيم الرياضية ، فيما يرى الموقف العقلي أو المثالي ، نابعة من العقل و موجودة فيه قبليا ، أي بمعزل عن كل تجربة . فهي توجد في العقل قبل الحس أي أن العقل لم يفتقر في البداية إلى مشاهدة العالم الخارجي حتى يتمكن من تصور مفاهيمه ودليلهم على ذلك أننا إذا تصفحنا تلك المعرفة وجدناها تتصف بمميزات منها ، المطلقية و الضرورة والكلية ، وهي مميزات خالصة موجودة في المعرفة الرياضية، وتتعذر في غيرها من العلوم التي تنسب إلى التجربة و لقد وقف للدفاع عن هذا الرأي عدد من الفلاسفة من العصر القديم إلى العصر الحديث أمثال أفلاطون و ديكارت وإيمانويل كانط نذكر مواقفهم فيما يلي :
أ : نجد التفسير المثالي القديم مع الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي أعطى السبق للعقل الذي – بحسبه - كان يحيا في عالم المثل ، وكان على علم بسائر الحقائق ، ومنها المعطيات الرياضية الأولية التي هي أزلية وثابتة مثل المستقيم و الدائرة و التعريف الرياضي و يقول في هذا الصدد " الدائرة هي الشكل الذي تكون جميع أبعاده متساوية عن المركز "
ب : أما الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت يرى أن المعاني الرياضية من أعداد و أشكال رياضية هي أفكار فطرية مثل فكرة الله و ما يلقيه الله في الإنسان من مفاهيم لا يجوز فيه الخطأ . و ديكارت قبل أن يصل إلى رسم منهجه المعرفي و اكتشافه لفكرة الكوجيتو كان قد شك في كل المعارف التي تلقاها من قبل إلا المعاني الرياضية التي وجدها تتميز بالبداهة والوضوح وعلى منوالها فيما بعد بنى نظرتيه المعرفية مؤسسا لمذهب العقلي .
ج : أما زعيم الفلسفة النقدية الفيلسوف الألماني كانط يعتبر أن المكان و الزمان مفهومان مجردان سابقان لكل تجربة و لا يمكن للمعرفة أن تتم إذا لم تنتظم داخل إطار الزمان والمكان القبليان
النقد : لكن مهما بدت هذه المعاني الرياضية مجردة فإنه لايمكن القول بأنها مستقلة عن المعطيات الحسية و إلا كيف يمكننا أن نفسر الاتجاه التطبيقي للهندسة والحساب لدى شعوب الحضارات الشرقية القديمة .
2 - نقيض الأطروحة :إن المفاهيم الرياضية مثل جميع معارفنا فيما يراه الحسيون و التجريبيون أمثال جون لوك و دافيد هيوم و جون ستيوارت ميل لم ترد على الإنسان من أي جهة أخرى غير العالم الواقعي الحسي أو التجريبي فهو مصدر اليقيني للمعرفة ، وبالتالي لجميع الأفكار و المبادئ ، و أن كل معرفة عقلية هي صدى لإدركاتنا الحسية عن هذا الواقع و على هذا الأساس ، تصبح التجربة المصدر اليقيني لكل معارفنا ، و أنها هي التي تخط سطورها على العقل الذي هو شبيه بالصفحة البيضاء و ليس ثمة في ذهنه معارف عقلية قبلية مستقلة عما تمده لنا الخبرة وتلقنه له الممارسات و التجارب ، و في هذا يقولون " لا يوجد شيء في الذهن ما لم يوجد من قبل في التجربة " و أدلتهم كثيرة نبينها فيما يلي :
أ : فمن يولد فاقد للحاسة فيما يقول هيوم ، لا يمكنه بالتالي أن يعرف ما كان يترتب على انطباعات تلك الحاسة المفقودة من أفكار . فالمكفوف لا يعرف ما اللون و الأصم لا يعرف ما الصوت . أما ميل يرى أن المعاني الرياضية كانت " مجرد نسخ " جزئية للأشياء المعطاة في التجربة الموضوعية حيث يقول : " إن النقاط و الخطوط و الدوائر التي عرفها في التجربة ". و لهذا ، فإن الرياضيات تعتبر عند ميل و غيره من الوضعيين المعاصرين علم الملاحظة
ب : توجد شواهد أخرى تؤيد موقف التجربين منها أصحاب علم النفس و أصحاب علم التاريخ . فالطفل في نظر علماء النفس في مقتبل عمره يدرك العدد مثلا ، كصفة للأشياء و أن الرجل البدائي لا يفصله عن المعدود ، إذ نراه يستخدم لكل نوع من الأشياء مسميات خاصة ، و أكثر من ذلك فلقد استعان عبر التاريخ عن العد بالحصى و بالعيدان و بأصابع اليدين و الرجلين و غيرهما و هذا ما يدل على النشأة الحسية و التجريبية للمفاهيم الرياضية بالنسبة للأطفال و البدائيين لا تفارق المجال الإدراكي الحسي و كأنها صفة ملابسة للشيء المدرك . و أكد الدارسين لتاريخ العلم أن الرياضيات قبل أن تصبح معرفة عقلية مجردة قطعت مرحلة كلها تجريبية فالهندسة ارتبطت بالبناء والتصاميم و تقدير مساحات الحقول و الحساب ارتبط بعد الأشياء فقط من أجل تحديد القيمة . الجمع و الطرح و القسمة و الضرب و هذا ما نجده عند الفراعنة و البابليين .
النقد : لكن مهما بدت هذه المعاني الرياضية محسوسة و تجريبية فإنه لا يمكن القول بأنها مستقلة عن المعطيات العقلية التجريدية و إلا كيف يمكننا أن نفسر المطلقية في الرياضيات " الرياضيات تكون صحيحة متى ابتعدت عن الواقع " و تأثيرها على جميع العلوم إلى درجة أصبحت معيار كل العلوم .
3 - التركيب : المفاهيم الرياضية وليدة العقل و التجربة معا
نجد أن المهذبين المتعارضين في تفسير نشأة المفاهيم الرياضية قد فصلوا تماما بين العقل و التجربة ، رغم أن تاريخ الرياضيات يبين لنا أن المعاني الرياضية لا يمكن اعتبارها أشياء محسوسة كلها ، و لا مفاهيم معقولة خالصة ، بل يمكن أن يتكاملا معا لتفسر نشأة المعاني الرياضية ، لأن هذه المعاني لم تنشأ دفعة واحدة ، بل نمت و تطورت بالتدرج عبر الزمن ، فقد بدأت المفاهيم حسية تجريبية في أول أمرها ، ثم تطورت و أصبحت مفاهيم استنتاجية مجردة ، بل تعبر عن أعلى مراتب التجريد ، باستعمال الصفر ، الأعداد الخيالية ، و المركبة ، و المنحنيات التي لا مماس لها ...لهذا قال " بياجي " : " إن المعرفة ليست معطى نهائيا جاهزا ، و أن التجربة ضرورية لعملية التشكيل و التجريد "
حل المشكلة :و عليه يمكن القول :
إن الرياضيات هي عالم العقل و التجريد ، و ليس هناك حد يقف أمام العقل في ابتكار المعاني الرياضية ، و في الكشف عن العلاقات ، و توظيفاتها ، و هي حرية لا يحدها سوى أمر واحد هو الوقوع في التناقض . و هذا ما يؤدي إلى الخطأ أو فساد النسق الاستدلالي .
طرح المشكلة : تعتبر الرياضيات علم الكم المجرد سواء كان هذا الكم منفصلا أو متصلا ، ونقصد بالأول العداد والتي هي موضوع الجبر والحساب ونقصد بالثاني الخطوط والأشكال والتي هي موضوع الهندسة ، وتعتمد الرياضيات في دراستها علم المنهج الاستدلالي بالطريقة الاستنتاجية التي يعتمد عليها القياس المنطقي، فهل يعني هذا أن الاستدلال الرياضي هو مجرد صورة للاستدلال المنطقي ؟
محاولة حل المشكلة :
1 القضية : يرى المنطقيون أن الاستدلال الرياضي يعتمد على الاستدلال المنطقي وذلك من حيث الصورة البنائية ذلك أن الاستدلال الرياضي ينطلق من عملياته البرهانية من المبادئ إلى نتائج ، وهي نفس الصورة البنائية التي يعتمد عليها القياس المنطقي وإذا كنا في القياس المنطقي ننطلق من مقدمتين كبرى وصغرى للوصول إلى نتيجة فإننا في الاستدلال الرياضي ننطلق من مبادئ الرياضيات المتمثلة في ـ التعريفات ـ البديهيات ـ المسلمات لنصل من خلالها إلى حل المسائل الرياضية أو المعادلات ، إذا لم تكن س هي نفسها س في جميع مراحل البرهنة وفقا لمبدأ الهوية ، كما أن التفكير الرياضي لا يقبل التناقض اعتمادا على مبدأ عدم التناقض وهو يظهر جليا باعتماد الرياضيات على المنطق وهو ما جعل راسل يقول : ( المنطق هو شباب الرياضيات)
** مناقشة : إن هذه المقاربات لا تعني بالضرورة اعتماد الرياضيات على المنطق لا من حيث السبق التاريخي ولا من حيث الطبيعة الإنتاجية للاستدلال الرياضي واعتماده على اللغة الرمزية بالإضافة إلى الاستعمالات المتعددة في حين أن استعمال المنطق يبقى محصورا في مجالات محددة
. نقيض القضية : تظهر استقلالية الاستدلال الرياضي على القياس المنطقي من خلال الخصوبة التي تتمتع بها الرياضيات من حيث تعدد المبادئ وتطورها وعمق العمليات البرهانية وتعدد نتائجها مقابل العقم الموجود في المنطق بحيث أن نتائجه لا تأتي بجديد ، بل هي مجرد تحصيل لما هو حاصل كما أن الرياضيات تعتمد على لغة رمزية و هي أساس الدقة التي يمنع بها التفكير الرياضي في حين يعتمد المنطق على اللغة الطبيعية والتي تحدث باسمها المغالطات ، بالإضافة إلى مجالات الاستعمال بحيث يقتصر استعمال المنطق في المجالات الكلامية والأفكار المجردة والأقيسة الفكرية والعقائدية بينما تستعمل الرياضي في مجالات واسعة تكون من خلالها المفاتيح التي تعتمد عليها جميع العلوم الطبيعية والرياضية . منا قشة: إن هذا التمايز بين الرياضيات والمنطق لا ينبغي على الرياضيات اعتمادها على المنطق في جميع عملياتها البرهانية .
التركيب : إن ظهور المنطق الرياضي الذي يعتمد على لغة رياضية رمزية يبين لنا مدى التكامل بين التفكير الرياضي والتفكير المنطقي خاصة وأنهما يشتركان في الطبيعة التجريدية
حل المشكلة :ومن هذا تستنتج أن الأصل المنطقي للاستدلال الرياضي يتمثل خاصة في الصورة الأستنتاجية التي يعتمد عليها البرهان الرياضي وهو صورة منطقية فلا يمكن أن نقيم البرهان الرياضي بدون احترام قواعد المنطق ، ولكن لا يعني هذا أن نحصر الرياضيات في حدود وضيفة المنطق .
هل أصل الرياضيات العقل أم التجربة ؟
طرح المشكلة :لقد أولع الإنسان منذ الزمن الغابر على طلب الحقيقة بكل أصنافها ؛ منها النمط الفلسفي و النمط العلمي و أعظمها شأنا النمط الرياضي ، الذي واكب كل تطورات الإنسان عبر العصور و ميز أعظم الحضارات بقوتها المادية ، لكن التفكير الفلسفي - سيد المعارف في العصور القديمة و العصور الوسطى – اهتم بالمعرفة الرياضية اهتماما تعلق بمناهجها ، بمنطلقاتها ، و قبله تساءل حول نشأتها ؛ فانقسم المفكرون في تفسير نشأة المفاهيم الرياضية إلى نزعتين ، نزعة عقلية أو مثالية يرى أصحابها أن المفاهيم الرياضية من ابتكار العقل دون التجربة ، ونزعة تجريبية أو حسية يذهب أنصارها إلى أن المفاهيم الرياضية مهما بلغت من التجريد العقلي ، فإنها ليست من العقل في شيء ، بل يكتسبها الإنسان عن طريق تجاربه الحسية . فما حقيقة الأمر؟ فهل المفاهيم الرياضية في نموها انبثقت من التجربة أم من العقل ؟ أي الفريقين على صواب ؟
محاولة حل المشكلة :
1 - الأطروحة : إن المفاهيم الرياضية ، فيما يرى الموقف العقلي أو المثالي ، نابعة من العقل و موجودة فيه قبليا ، أي بمعزل عن كل تجربة . فهي توجد في العقل قبل الحس أي أن العقل لم يفتقر في البداية إلى مشاهدة العالم الخارجي حتى يتمكن من تصور مفاهيمه ودليلهم على ذلك أننا إذا تصفحنا تلك المعرفة وجدناها تتصف بمميزات منها ، المطلقية و الضرورة والكلية ، وهي مميزات خالصة موجودة في المعرفة الرياضية، وتتعذر في غيرها من العلوم التي تنسب إلى التجربة و لقد وقف للدفاع عن هذا الرأي عدد من الفلاسفة من العصر القديم إلى العصر الحديث أمثال أفلاطون و ديكارت وإيمانويل كانط نذكر مواقفهم فيما يلي :
أ : نجد التفسير المثالي القديم مع الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي أعطى السبق للعقل الذي – بحسبه - كان يحيا في عالم المثل ، وكان على علم بسائر الحقائق ، ومنها المعطيات الرياضية الأولية التي هي أزلية وثابتة مثل المستقيم و الدائرة و التعريف الرياضي و يقول في هذا الصدد " الدائرة هي الشكل الذي تكون جميع أبعاده متساوية عن المركز "
ب : أما الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت يرى أن المعاني الرياضية من أعداد و أشكال رياضية هي أفكار فطرية مثل فكرة الله و ما يلقيه الله في الإنسان من مفاهيم لا يجوز فيه الخطأ . و ديكارت قبل أن يصل إلى رسم منهجه المعرفي و اكتشافه لفكرة الكوجيتو كان قد شك في كل المعارف التي تلقاها من قبل إلا المعاني الرياضية التي وجدها تتميز بالبداهة والوضوح وعلى منوالها فيما بعد بنى نظرتيه المعرفية مؤسسا لمذهب العقلي .
ج : أما زعيم الفلسفة النقدية الفيلسوف الألماني كانط يعتبر أن المكان و الزمان مفهومان مجردان سابقان لكل تجربة و لا يمكن للمعرفة أن تتم إذا لم تنتظم داخل إطار الزمان والمكان القبليان
النقد : لكن مهما بدت هذه المعاني الرياضية مجردة فإنه لايمكن القول بأنها مستقلة عن المعطيات الحسية و إلا كيف يمكننا أن نفسر الاتجاه التطبيقي للهندسة والحساب لدى شعوب الحضارات الشرقية القديمة .
2 - نقيض الأطروحة :إن المفاهيم الرياضية مثل جميع معارفنا فيما يراه الحسيون و التجريبيون أمثال جون لوك و دافيد هيوم و جون ستيوارت ميل لم ترد على الإنسان من أي جهة أخرى غير العالم الواقعي الحسي أو التجريبي فهو مصدر اليقيني للمعرفة ، وبالتالي لجميع الأفكار و المبادئ ، و أن كل معرفة عقلية هي صدى لإدركاتنا الحسية عن هذا الواقع و على هذا الأساس ، تصبح التجربة المصدر اليقيني لكل معارفنا ، و أنها هي التي تخط سطورها على العقل الذي هو شبيه بالصفحة البيضاء و ليس ثمة في ذهنه معارف عقلية قبلية مستقلة عما تمده لنا الخبرة وتلقنه له الممارسات و التجارب ، و في هذا يقولون " لا يوجد شيء في الذهن ما لم يوجد من قبل في التجربة " و أدلتهم كثيرة نبينها فيما يلي :
أ : فمن يولد فاقد للحاسة فيما يقول هيوم ، لا يمكنه بالتالي أن يعرف ما كان يترتب على انطباعات تلك الحاسة المفقودة من أفكار . فالمكفوف لا يعرف ما اللون و الأصم لا يعرف ما الصوت . أما ميل يرى أن المعاني الرياضية كانت " مجرد نسخ " جزئية للأشياء المعطاة في التجربة الموضوعية حيث يقول : " إن النقاط و الخطوط و الدوائر التي عرفها في التجربة ". و لهذا ، فإن الرياضيات تعتبر عند ميل و غيره من الوضعيين المعاصرين علم الملاحظة
ب : توجد شواهد أخرى تؤيد موقف التجربين منها أصحاب علم النفس و أصحاب علم التاريخ . فالطفل في نظر علماء النفس في مقتبل عمره يدرك العدد مثلا ، كصفة للأشياء و أن الرجل البدائي لا يفصله عن المعدود ، إذ نراه يستخدم لكل نوع من الأشياء مسميات خاصة ، و أكثر من ذلك فلقد استعان عبر التاريخ عن العد بالحصى و بالعيدان و بأصابع اليدين و الرجلين و غيرهما و هذا ما يدل على النشأة الحسية و التجريبية للمفاهيم الرياضية بالنسبة للأطفال و البدائيين لا تفارق المجال الإدراكي الحسي و كأنها صفة ملابسة للشيء المدرك . و أكد الدارسين لتاريخ العلم أن الرياضيات قبل أن تصبح معرفة عقلية مجردة قطعت مرحلة كلها تجريبية فالهندسة ارتبطت بالبناء والتصاميم و تقدير مساحات الحقول و الحساب ارتبط بعد الأشياء فقط من أجل تحديد القيمة . الجمع و الطرح و القسمة و الضرب و هذا ما نجده عند الفراعنة و البابليين .
النقد : لكن مهما بدت هذه المعاني الرياضية محسوسة و تجريبية فإنه لا يمكن القول بأنها مستقلة عن المعطيات العقلية التجريدية و إلا كيف يمكننا أن نفسر المطلقية في الرياضيات " الرياضيات تكون صحيحة متى ابتعدت عن الواقع " و تأثيرها على جميع العلوم إلى درجة أصبحت معيار كل العلوم .
3 - التركيب : المفاهيم الرياضية وليدة العقل و التجربة معا
نجد أن المهذبين المتعارضين في تفسير نشأة المفاهيم الرياضية قد فصلوا تماما بين العقل و التجربة ، رغم أن تاريخ الرياضيات يبين لنا أن المعاني الرياضية لا يمكن اعتبارها أشياء محسوسة كلها ، و لا مفاهيم معقولة خالصة ، بل يمكن أن يتكاملا معا لتفسر نشأة المعاني الرياضية ، لأن هذه المعاني لم تنشأ دفعة واحدة ، بل نمت و تطورت بالتدرج عبر الزمن ، فقد بدأت المفاهيم حسية تجريبية في أول أمرها ، ثم تطورت و أصبحت مفاهيم استنتاجية مجردة ، بل تعبر عن أعلى مراتب التجريد ، باستعمال الصفر ، الأعداد الخيالية ، و المركبة ، و المنحنيات التي لا مماس لها ...لهذا قال " بياجي " : " إن المعرفة ليست معطى نهائيا جاهزا ، و أن التجربة ضرورية لعملية التشكيل و التجريد "
حل المشكلة :و عليه يمكن القول :
إن الرياضيات هي عالم العقل و التجريد ، و ليس هناك حد يقف أمام العقل في ابتكار المعاني الرياضية ، و في الكشف عن العلاقات ، و توظيفاتها ، و هي حرية لا يحدها سوى أمر واحد هو الوقوع في التناقض . و هذا ما يؤدي إلى الخطأ أو فساد النسق الاستدلالي .
هل معيار الحقيقة في الرياضيات يكمن في البداهة والوضوح أم في أتساق النتائج مع المقدمات؟
طرح المشكلة :
توصف المعرفة الرياضية بالصناعة الصحيحة واليقينية في منطلقاتها ونتائجها، لكن التساؤل عن معيار اليقين في الرياضيات كشف انه ليس معيارا واحدا في الرياضيات الإقليدية والرياضيات المعاصرة، ذلك أن الرياضيات الإقليدية تعتقد جازمة ببداهة ووضوح مبادئها وترى فيها النموذج الوحيد في الصدق المطلق، أما الرياضي المعاصر فلا تهمه المبادئ ذاتها لأنها تشكل مقدمات في النسق الرياضي ، بقدر ما يهمه النسق الرياضي في مجمله أي أن عدم تناقض المقدمات مع النتائج هو معيار اليقين في الرياضيات. وفي ذلك نطرح السؤال التالي:
هل معيار اليقين في الرياضيات يتمثل في بداهة ووضوح مبادئها أم يتمثل في اتساق نتائجها مع مقدماتها؟
محاولة حل المشكلة :
الأطروحة الاولى : معيار اليقين في الرياضيات يتمثل في بداهة ووضوح مبادئها أسست الرياضيات الكلاسيكية تاريخيا قبل عصر النهضة بقرون عديدة قبل الميلاد على يد فيلسوف ورياضي يوناني مشهور اسمه إقليدس (306ق.م/253ق.م)، إذ سيطرت رياضياته الكلاسيكية على العقل البشري إلى غاية القرن التاسع عشر الميلادي، حتى ضن العلماء أنها الرياضيات الوحيدة التي تمتاز نتائجها بالصحة والمطلقية.
اعتمدت الرياضيات الكلاسيكية على مجموعة من المبادئ أو المنطلقات التي لا يمكن للرياضي التراجع في البرهنة عليها إلى ما لا نهاية، فهي قضايا أولية وبديهية لا يمكن استخلاصها من غيرها،وهي مبادئ لا تحتاج إلى برهان على صحتها لأنها واضحة بذاتها من جهة و لأنها ضرورية لقيام المعرفة الرياضية من جهة أخرى، يستخدمها الرياضي في حل كل قضاياه الرياضية المختلفة، فما هي هذه المبادئ؟
*التعريفات الرياضيةهي أولى القضايا التي يلجأ إليها الرياضي من اجل بناء معنى رياضي وإعطائه تمييزا يختلف عن غيره من المعاني الرياضية الأخرى، ومن أهم التعريفات الإقليدية الرياضية، نجد تعريف المثلث بأنه شكل هندسي له ثلاثة أضلاع متقاطعة مثنى مثنى مجموع زواياه تساوى 180درجة. والنقطة هي شكل هندسي ليس لها أبعاد، أو هي حاصل التقاء خطين. والخط المستقيم هو امتداد بدون عرض.
*البديهياتهي قضايا واضحة بذاتها،صحيحة وصادقة بذاتها لا تحتاج إلى دليل على صحتها برأي الكلاسيكيين، أي لا يمكن للعقل إثباتها أي تفرض نفسها على العقل بوضوحها لأنها تستند إلى تماسك مبادئ العقل مع ذاته، فهي قضايا قبلية نشأت في العقل قبل التجربة الحسية، فهي قضايا حدسية يدركها العقل مباشرة دون برهان أو استدلال، كما أنها قضايا تحليلية موضوعها لا يضيف علما جديدا إلى محمولها، ومنها بديهيات إقليدس التي تقول:
إن الكل اكبر من الجزء والجزء اصغر من الكل.
الكميتان المساويتان لكمية ثالثة متساويتان.
وبين نقطتين لا يمكن رسم إلا مستقيما واحدا.
وإذا أضيفت كميات متساوية إلى أخرى متساوية تكون النتائج متساوية.
*المصادراتتسمى أحيانا بالأوليات وأحيانا بالموضوعات .وأحيانا بالمسلمات لان الرياضي هو الذي يضعها فهي إذن قضايا لا نستطيع البرهنة على صحتها وليست واضحة بذاتها، أي فيها تسليم بالعجز، ولذلك نلجأ إلى التسليم بصحتها. ومن مصادرات إقليدس نجد:
مثلا من نقطة خارج مستقيم لا نستطيع رسم إلا مستقيما واحدا مواز للمستقيم الأول.
المستقيمان المتوازيان مهما امتدا لا يلتقيان.
المكان سطح مستوي درجة انحنائه يساوي صفر وله ثلاثة إبعاد هي الطول والعرض والارتفاع.
مجموع زوايا المثلث تساوى قائمتين.
وتسمى هذه المبادئ في مجموعها بالمبادئ الرياضية الكلاسيكية أو بمبادئ النسق الاكسيوماتيكى نسبة إلى كلمة أكسيوم والتي تعنى في العربية البديهية. وهو نسق قائم على التمييز بين هذه المبادئ الثلاثة.
نقد :
إن الهندسة الكلاسيكية التي كانت حتى القرن 19 مأخوذة كحقيقة رياضية مطلقة، أصبحت تظهر كحالة خاصة من حالات الهندسة وما كان ثابتا ومطلقا أصبح متغيرا ونسبيا،وفي هذا المعنى يقول بوليغانإن كثرة الأنظمة في الهندسة لدليل على إن الرياضيات ليس فيها حقائق مطلقة.)). فماهي هذه الأنظمة التي نزعت من الرياضيات الكلاسيكية صفة اليقين المطلق؟
الأطروحة الثانية: معيار اليقين في الرياضيات يتمثل في اتساق النتائج مع المقدمات :قد حاول الرياضيون في مختلف العصور أن يناقشوا مبادئ الهندسة الإقليدية، ولم يتمكنوا منها إلا في العصر الحديث، وهي أطروحة ترى أن معيار الصدق في الرياضيات لا يتمثل في وضوح المبادئ و بداهتها ولكن يتمثل في مدى انسجام وتسلسل منطقي بين الافتراضات أو المنطلقات وبين النتائج المترتبة عنها، وهي أطروحة حديثة تتعرض بالنقد والتشكيك في مبادئ ونتائج الرياضيات الكلاسيكية. أطروحة مثلها الفرنسي روبير بلا نشي والروسي لوبا تشيفسكي و الألماني ريمان. فما هي هذه الانتقادات والشكوك؟
انتقد الفرنسي روبير بلا نشى في كتابه(الأكسيوماتيكا) المبادئ الثلاثة للرياضيات الكلاسيكية:
• التعريفات الإقليدية ووصفها بأنها تعريفات لغوية لا علاقة لها بالحقيقة الرياضية فهي تعريفات نجدها في المعاجم اللغوية فهي بذلك لاتهم إلا اللغة.
• هي تعريفات وصفية حسية تصف المكان الهندسي كما هو موجود حسيا في ارض الواقع وهى بذلك تعريفات تشبه إلى حد بعيد التعريفات في العلوم الطبيعية.
• هي تعريفات لا نستطيع الحكم عليها بأنها صحيحة أو خاطئة فإذا اعتبرناها نظرية وجب البرهنة عليها، وإذا لم نقدر على ذلك وجب اعتبارها مصادرة، وهذا معناه أن التعريفات الإقليدية في حقيقتها عبارة عن مصادرات.
• انتقد بلا نشى أيضا بديهية إقليدس (الكل اكبر من الجزء) معتبرا أنها بديهية خاطئة وليست صحيحة، إذ ثبت أنها صحيحة فقط في المجموعات المنتهية.
• انتقد بلا نشى البديهية أيضا معتبرا أنها صحيحة وصادقة ولا تحتاج إلى برهان في المنطق القديم لكن في الرياضيات المعاصرة البديهيات قضايا يجب البرهنة على صحتها وإذا لم نتمكن من ذلك وجب اعتبارها مسلمة أي مصادرة.
• أما المصادرات فباعتبارها مسلمات أو موضوعات لا نستطيع البرهنة عليها ففيها تسليم بالعجز، من هنا يعتبر بلانشى إن أنسب مبدأ للرياضيات هو مبدأ المصادرات أي المسلمات أو الفرضيات.
• من هنا فأن هندسة إقليدس لم تعد توصف بالكمال المطلق، ولا تمثل اليقين الفكري الذي لا يمكن نقضه، لقد أصبحت واحدة من عدد غير محدود من الهندسات الممكنة التي لكل منها مسلماتها الخاصة بها.
• من هذا المنطلق ظهرت في القرن التاسع عشر أفكارا رياضية هندسية جديدة تختلف عن رياضيات إقليدس وسميت بنظرية النسق الاكسيوماتيكى أو بالهندساتاللاإقليدية ، وتجلى ذلك بوضوح من خلال أعمال العالمين الرياضيين لوبا تشيفسكي الروسي وريمان الألماني.
في سنة 1830م شكك العالم الرياضي الروسي في مصادرات إقليدس السابق ذكرها وتمكن من الاهتداء إلى الأساس الذي بنيت عليه، وهو المكان الحسي المستوى، وهكذا تصور مكانا أخر يختلف عنه وهو المكان المقعر أي الكرة من الداخل، وفى هذه الحالة تمكن من الحصول على هندسة تختلف عن هندسة إقليدس، أي من خلال هذا المكان أعلن لوباتشيفسكى انه بإمكاننا أن نرسم متوازيات كثيرة من نقطة خارج مستقيم، والمثلث تصير مجموع زواياه اقل من 180 درجة.
وفي سنة 1854م شكك ا الألماني ريمانهو الأخر في مصادرات إقليدس وتمكن من نقضها على أساس أخر، فتصور المكان محدودبا أي الكرة من الخارج واستنتج بناءا على ذلك هندسة جديدة ترى انه لا يمكن رسم أي مواز من نقطة خارج مستقيم، وكل مستقيم منتهى لأنه دائري وجميع المستقيمات تتقاطع في نقطتين فقط والمثلث مجموع زواياه أكثر من 180درجة.
النقد :
إذا كانت الرياضيات المعاصرة قد أسقطت فكرة البداهة والوضوح والكمال واليقين والمطلقية في الرياضيات الكلاسيكية، وإذا كان الرياضي المعاصر حر في اختيار مقدمات برهانه فهذا لا يعني أن يتعسف في اختياره ووضعها بل يجب أن يخضع في وضعها إلى شروط منطقية صارمة تنسجم فيها هذه المقدمات مع نتائجها انسجاما منطقيا ضروريا.
التركيب : من خلال ما سبق عرضه نلاحظ أن تعدد الأنساق الرياضية لا يقضي على يقين كل واحد منها، فكل هندسة صادقة صدقا نسقيا إذا أخذت داخل النسق الذي تنتمي إليه وفي هذا المعنى يقول الفرنسي روبير بلا نشى " أما بالنسبة للأنساق في حد ذاتها فلم يعد الأمر يتعلق بصحتها أو بفسادها اللهم إلا بالمعنى المنطقي للانسجام أو التناقض الداخلي، والمبادئ التي تحكمها ليست سوى فرضيات بالمعنى الرياضي لهذا المصطلح."
حل المشكلة:
من خلال ما سبق نستنتج ما يلي:
• إن الرياضيات الإقليدية لم تعد توصف بالكمال والمطلقية، ولم تعد تمثل اليقين الرياضي الوحيد الذي لا يمكن نقضه، بل غدت واحدة من عدد غير محدود من الهندسات الممكنة التي لكل منها مسلماتها الخاصة بها. ولذلك فأن تعدد الأنساق الرياضية هو دليل على خصوبة الفكر في المجال الرياضي وليس التعدد عيبا ينقص من قيمتها أو يقينها.
• كما أن المعرفة الرياضية لا تكتسي الصفة اليقينية المطلقة إلا في سياق منطلقاتها ونتائجها، وهذه الصفة تجعل من حقائقها الرياضية حقائق نسقية.
• كما أن البرهنة في الرياضيات انطلقت من منطق استنتاجي يعتقد في صدق مبادئه ومقدماته إلى منطق فرضي يفترض صدق مبادئه ومقدماته.
هل اليقين في نتائج العلوم قد بلغ درجة اليقين الرياضي؟
طرح المشكلة :
"إن العلوم تتسابق لاستعمال الرياضيات للتعبير عن نفسها ولغزو المجهول" _ بوان كاري
من هذا القول الفلسفي يتجلى لنا إن للرياضيات قيمة تجعل العلوم تتسابق لاقتنائها، و استخدامها كلغة، للخروج من الوصف القبيح للظاهرة إلى الوصف الدقيق و ذلك بالرموز و الأرقام، و العلاقات إلى درجة أن أصبحت الرياضيات موضة العلوم. و قيمة الرياضيات تتجلى في اليقين ،فما هو اليقين في الرياضيات؟ والى أي حد وفقت العلوم على اختلافها في توظيف هذا اليقين ؟
محاولة حل المشكلة: لقد أسهمت الرياضيات إسهاما كبيرا في الارتقاء بالعلوم من المجسد إلى المجرد حيث تخرج الظاهرة من الوصف الكيفي إلى علاقات كمية ، تربط المتغيرات بالثوابت ، و تنسجها في قالب يرضي الجميع، ففرق كبير بين إن نعبر عن الصوت بالتواتر (ن) و طول الموجة (ط) و الذبذبات. و يختلف الوضع اختلافا شديدا عندما نتحدث عن سقوط الأجسام كأسباب و مسببات ، وان نتحدث بقانون غاليلي ع=½ج ز
وقد غزت الرياضيات بيقينها علوما كثيرا، ففي علم الفلك اكتشف العالم لوفيري بواسطة حسابات رياضية بحتة كوكب نبتون و كان موقنا من ذلك.إذ انه لاحظ حركة غير طبيعية على كوكب المشتري و أحصى جميع القوى المؤثرة عليه من مختلف الكواكب المعروفة إلى إن توصل إلى وجود مؤثر غير الكواكب المحصاة و بفضل حسابات رياضية حدد موقعه و مداره و سرعته و عرض بحوثه على وكالة أرصاد ألمانية فكانت النتيجة اكتشاف كوكب نبتون .
وفي البيولوجيا أصبح استخدام الرياضيات قصد اليقين شاسعا فنجد حساب التركيز داخل وخارج الخلايا و إنشاء المنحنيات البيانية و استخدام الهندسة التحليلية لديكارت و التي أثرت الحتمية البيولوجية .
كما استخدمت الإعداد المركبة ل"بومبيلي" في الكهرباء ما أعطاها يقينا زائدا حيث تكفي معرفة شروط ابتدائية لتحديد الشدة أو فرق الكمون كما تساعد في التعبير عن احد التغيرات قصد الدراسة .
وحسابات "هويجنز"استعملها "آينشتاين " في حساب مستويات الطاقة فأصبحت الرياضيات بيقينها تنقل إلى باقي العلوم يقينا و حتمية .
يقول برغسون:" إن المعرفة العلمية وليدة الرياضيات وما كان العلم الحديث لينشأ لولا إن اصطاد الجبر العلوم ووضعها في شباكه "
حتى إن العلوم الإنسانية أصبحت تعبر عن نتائجها و إحصاءاتها بالاحتمال و المنحنيات البيانية و كذلك العلوم النفسية فهذا فرويد يعالج مرض الاكتئاب بحسابات رياضية و حتميات .وكذلك" واطسون "ودراسته
"الفعل و رد الفعل"
*إلا أن اليقين في المفاهيم المجسدة، لم يبلغ حتما ما بلغه اليقين في المفاهيم المجردة ـ الرياضيات ـ
فبالنسبة للرياضي ، هو من يقترح الفرضيات من تعريفات ، بديهيات أو مصادرات " المصادرة هي تعريف متنكر "ـ بوان كاري ـ و يبني على أساس هذه الفرضيات برهانه ، كما يقول بوان كاري " إن الرياضيات تنفرد وحدها بالتعاريف ، ولا يمكن أبدا أن تخطئ "( عكس ما يقول بوان كاري يقول برتراند راسل :"ـ إن الرياضيات هي العلم الذي لا يعرف عما يتحدث ، وما إذ كان ما يتحدث عنه صحيحا أو خاطئاـ " و شرط البرهان الصحيح في الرياضيات هو عدم تناقص العقل مع نفسه أي مع مسلماته الأولى ، كما يقول الفيلسوف "بولير ": إن الرياضي يعرف ما يقول من حديث ، لأنه هو الذي وضع مسلماته الأولى و اشترط على نفسه ألا يتناقض معها ، وهو ليس مطالب باختيار مسلماته بقدر ماهو مطالب ببقائه وفيا لها" . بينما العالم المتعامل مع الواقع و الطبيعة ، فالواقع هو الذي يفرض عليه مبادئه الأولى ، وهو مقيد بهذه المبادئ ، وخاضع للطبيعة و يشترط لكي يكون بناؤه صحيحا عدم مطابقة العقل مع الواقع،أي ألا يفسر إلا بما يمليه عليه الواقع ، و لأن الواقع غامض ، ولا يستطيع التعامل معه بحرية ، فإنه يتعذر اكتساب اليقين المكتسب في الرياضيات
ففي العلوم الفيزيائية :
بعد أن نزل العلماء ، و الفيزيائيون إلى الذرة ، ومنهم العالم هيزنبرغ لا حظوا أن : كمية حركة الجسم وحدها لا يمكن أن تعين سرعته الابتدائية ، ولا موقعه في السحابة الإلكترونية ، فأصبح الفيزيائيون يتحدثون بلغة المجالات لا الأرقام المحددة و يصفون الإلكترون باحتمالات فاحتمال كونه في مجال هو أكبر من احتمال كونه في مجال آخر .فأين هو اليقين في النتائج العلمية من يقين الرياضيات المطلقة التي تعطينا نتائج لا جدال فيها، و لا تحتاج إلى ثقتنا.
*و إذا انتهينا للنظريات الرياضية ، نجد حسب علاقات " فيتاغورس " الأعداد الجذرية . و هي مفاهيم مطلقة ، مقبولة في الأذهان ، لكن إن أردنا مثلا تحديدا للعدد ∏في الفيزياء ، فنلجأ إلى التقريب .
و لهذا يقول عالم الذرة و الفيزياء الحديثة الألماني " ألبرت آنشطاين " <<إن الرياضيات بقدر ما تكون مرتبطة بالواقع ، بقدر ما تكون غير يقينية >>و لو كانت النتائج في الفيزياء يقينية ، لما لجأ الفيزيائيون إلى قوانين التقريب مثل ( 1+ع)ن =1+ن ع، و لما قال " اللورد كالفن " <<إنك لا تستطيع السيطرة على الظاهرة ، مالم تتمكن من التعبير عنها بالأرقام ، و حصرها في مجالات >>و ذلك بعد الخسارة الكبرى في بورصة الأمريكية ، عندما لم يحتاطوا لترك فراغات ، بين أجهزة السفن ، و التي أفسدت بعضها بعد تمددها فظهرت الإرتيابات .
وفي مجال العلوم الطبيعية :
ـ تمكن العالمان : واطسن و كريك بعد اعتماد الاستقراء الناقص على جزئيةadn، من استنتاج تساوي القواعد اللآزرتية)( ta)(gcو لكن من يضمن لنا أن جميع adnالكائنات الحية هو نفسه في هذا العدد ،إذن حدود اليقين في البيولوجيا هو الثقة ، و التعود
ـ و تتدخل الفردية البيولوجية لإعاقة اليقين العلمي ، و تأخيره عن اليقين الرياضي فيتعذر تطبيق نفس القوانين ، أو التنبؤ بنفس النتائج فقد يتسبب حقن "البنسلين " لشخص في وفاته ، و يتسبب حقن نفس المركب لشخص آخر في شفائه ، فأين هو التنبؤ بالنتائج و تأكيدها في ميدان العلوم البيولوجية؟ .
ـ وقد أكد الآليون أنّ ما يحدث في المعدة من تفاعلات هو نفسه ما يحدث في المخبر، و لكن بصورة أعقد، ما يجعل السيطرة على الظواهر التي تحدث في المعدة أمرا شبه مستحيل. كالمنع و الإجاد، و التنبؤ و لهذا يقول مالبرانش"إنّ الطبيعة ليست مجردة أبدا".
و في مجال العلوم النفسية :تتدخل فكرتا الزمان و المكان ، و اللتان لا تدركان إلاّ بالحدس الحسي،و يرى الفيلسوف الألماني "كانط" أنهما مطلقان.
و مشكلة الصيرورة كذلك تعيق اليقين في مجال العلوم النفسية و الاجتماعية . فيقول برغسون:"إنّ الصيرورة لا تقاس ،ولا يمكن أن تدرك إلا عن طريق الحدس فمن يضمن لنا أننا نعيش حياة ثابتة دائمة ،مضطردة كما يقول برتراند راسل "إنّ التجربة وحدها لا تكفي و لابد للباحث إما أن يسلم بمبدأ الاستقراء أو أن يبحث عبثا عن مبررات حكمه ،إن الجواب عن السؤال :هل المستقبل القادم يشبه المستقبلات الماضية...لا يمكن بالاعتماد على المستقبل الماضي.".
فحدود اليقين في العلوم مالثقة،ي الحتميات و الاطراد،و مبادئ ميتافيزيقية،كالإيمان بديمومة القوانين، و الثقة في القوانين و التي تنتج عن الحتمية مع التنبؤ ،فقانون دافعة أرخميدس ليس هو الذي يجعل الناس يركبون الطائرة أو الباخرة و هم مطمئنين ،إنما الثقة في دافعة أرخميدس ، و في العلم كافة هي التي جعلت اليقين يتسرب إلى جموع الناس.إنهم يطبقون مبدأ كلود برنار الذي يقول : "يجب أن نثق في العلم ،أي في الحتميات تلك العلاقة الثابتة و المطلقة بين الأشياء."فأساس اليقين في العلوم هو الثقة ،بينما أساس اليقين في الرياضيات فهو صحة البرهان الرياضي ،و اليقين الرياضي يبقى أقوى من اليقين في العلوم .
و لهذا نجد بأنّ نظريات علمية كثيرة سادت و لمدة طويلة ،ثم بطل يقينها بتطور العلم كنظرية أن الأرض مسطحة ،و التي أثبت غاليلو بأنها كروية ،و اليونان الذين قالوا بأنّ :الماء بسيط ثم جاء "لافوازيه" ليبطل هذه النظرية باكتشافه أن الماء مكون من عنصري الهيدروجين و الأكسجين. بينما نظرية "إقليدس " (مجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين) بقيت راسخة،رغم ظهور هندسة "لوباتشيفسكي " الروسي و "ريمان" الألماني ، لأنّ إقليدس قد وضع فرضيات أو تعريفات مسبقة ، و حدد مفاهيمه مسبقا ، كالسطح المستوي ، و معنى الزاوية ،و معنى المثلث،و بنى برهانه مستندا على ما افترضه ،محترما النسق الرياضي .فكانت هندسته مطلقة صحيحة ،و ستبقى صحيحة يقينا ،لأنّ الرياضيات علم فرضي استنتاجي .بينما باقي العلوم، فهي تخضع للطبيعة، و أي تمرد عليها، و استكبار أو محاولة الفرض فإنها ستعود بالسلب على العالم.و هذا ما حدث في عهد أرسطو الذي أراد أن يعقلن الطبيعة، فكان كما يقول أحد الفلاسفة:"إنّ الإنسان كائن ذو كبرياء."وعلى العالم لكي تكون نتائجه يقينية أن يفعل مثلما فعل نيوتن عندما استنتج قانون الجاذبية خاضعا لشروط موضوعية .و قد استهزئ به فردّ قائلا: "أنا لا أفترض الفروض"
حل المشكلة: يقين الرياضيات في البره لأنها: من يقين العلوم، و لو أنها ترتقي لتبلغ يقين الرياضيات، فأصبحت الرياضيات مثالا تسير على حذوه باقي العلوم.و برهان الرياضيات أقوىلأنها:تعتمد على التعريفات و شرط البرهان الصحيح هو الخضوع للنسق، و عدم مناقضة المسلمات الأولى.فهي علم فرضي استنتاجيبينما العلوم، تخضع للحتميات، الطبيعية و الاجتماعية و النفسية، و شرطها عدم مناقضة العقل للواقع.فالعالم يتنبؤ حسب الحتميات ،أما الرياضي فيجزم بنتائجه المطلقة و ذلك ما يظهر في قولنا:" ستمطر على10:00" و بين قولنا"1+1=2".
أثبت الأطروحة القائلة بأن الحقيقة الرياضية صارت حقيقة منطقية بحتة ؟
طرح المشكلة:
كانت الرياضيات واحدة توصف بأنها يقينية و مطلقة،لكن التطور الذي شهدته، بظهور الهندساتاللااقليدية طرح مشكلة فلسفية تتمثل في أزمة اليقين في الرياضيات فبعدما كانت الرياضيات واحدة صارت متعددة -تعدد الأنساق الرياضية- و منه صارت الحقيقة الرياضية حقيقة منطقية بحتة. فكيف يمكن الدفاع عن هذه الأطروحة ؟
محاولة حل المشكلة :
عرض منطق الأطروحة :
تغير معيار الحقيقة الرياضية عندما انفصلت الرياضيات عن الواقـع الحســــي، و أصبح الحكم على النسق الرياضي يعتمد فقط على مدى انسجامه داخليا ،أي خلو النسق من التناقض الداخلي ،عدم تناقض المقدمـات مع النتـائج. و يبرر هذا تعدد الهندسات بتعدد المنطلـقات و اعتبارها كلها صحيحة إذا نظرنا إليها من حيث الانسجام الداخلي فهندسة ريمان تمثل نسقا هندسيا متناسقا و هندسة لوباتشيفسكي تمثل نسقا هندسيا متناسقا. فهاتين الهندستين لا تقلان تناسقا عن هندسة اقليدس. كذلك في مجال الجبر و الحساب. وجود أعداد لا علاقة لها بالواقع الحسي الأعداد التخيلية مثلا.....
عرض منطق الخصوم و نقده: الرياضيات الكلاسيكية كـانت تعتبر حقيقـة منطقـية و واقعية في آن واحد. فالحقيقة الرياضية هي تؤلف كلا متناسقا و تنطبق على الواقع. هندسة إقليدس حقيقة عقلية و واقعية لأن قضاياها تنطبق على الواقع الحسي. و لهذا قال كانط:" إن أوثق ما نعرفه عن العالم هندسة أقليدس و فيزياء نيوتن".إن هذا الوصف لا ينطبق على الرياضيات المعاصرة.الهندساتاللااقليدية صحيحة لكنها لا تصف لنا الواقع كما تقدمه لنا الحواس.
التأكيد على منطق الأطروحة: إن الرياضيات المعاصرة صارت صورية لا تهتم سوى باندماج القضية في النسق أي الانسجام الداخلي.و صارت المنطلقات مجرد فرضيات لا يمكن الحكم عليها بالصحة و الخطأ إلا داخل النسق الذي تنتمي إليه مثلا القضية القائلة مجموع زوايا المثلث أكبر من 180° هي صحيحة بالنسبة لنسق ريمان ،و غير صحيحة بالنسبة للأنساق الأخرى...و لهذا قالبرتراند راسل:" إن الرياضي الحديث يشبه خياط الملابس يخيط بدلات و لا يعرف أصحابها" يعني يؤلف أنساق صحيحة منطقيا لكن لا يهمه هل يوجد لها تطبيقا على مستوى الواقع فهذه مهمة الرياضيات التطبيقية.و قال أيضا :"إن الرياضي المعاصر لا يعرف عما يتحدث و لا إذا كان ما يتحدث عنه صحيحا".
حل المشكلة :كانت الحقيقة الرياضية حقيقة منطقية و واقعية و صارت منطقية بحتة.
كيف تبطل الأطروحة القائلة : " المعاني الرياضية فطرية وبالتالي مصدرها العقل "
طرح المشكلة :
إذا كان الإنسان يتفوق على بقية الكائنات بالعقل ، وبواسطته يستطيع التفكير ، وهذا الأخير ، هو أنواع ، تفكير فلسفي و تفكير علمي وتفكير رياضي وموضوعه الرياضيات وهي مجموعة من المفاهيم العقلية المجردة ، وبالتالي فهي تدرس المقادير الكمية القابلة للقياس ، ومنهجها استنتاجي عقلي لأن الرياضي ينتقل من مبادئ عامة كالبديهيات ثم يستنتج نظريات خاصة تكون صحيحة ، إذا لم تتعارض مع تلك المقدمات ، ولقد شاع لدى الفلاسفة أن أصل المفاهيم الرياضية عقلي وبالتالي فهي فطرية يولد الإنسان وهو مزود بها ، إلا أن هذه الأطروحة فيها كثير من المبالغة والخطأ ، وهذا النقص حاول أن يظهره خصومهم من الفلاسفة الذين أرجعوا أصلها للتجربة وبالتالي فهي مركزية وهذا الذي يدفعنا إلى الشك في صدق أطروحة " المعاني الرياضية فطرية وبالتالي مصدرها العقل " فكيف يمكن أن رفض هذه الأطروحة ؟ أو بعبارة أخرى إلى أي حد يمكن تفنيد الرأي القائل بأن نشأة الرياضيات كانت عقلية ؟
محاولة حل المشكلة :
أ - منطق الأطروحة ← إن المنطق هذه الأطروحة يدور حول نشأة الرياضيات ، حيث يرى بعض الفلاسفة وخاصة أفلاطون و ديكارت بأن المعاني الرياضية أصلها عقلي أي نابعة من العقل وموجودة فيه قبليا بعيدة عن كل تجربة حسية ، وقد اعتمدوا على مسلمات أهمها :
- لا يمكن أن تكون التجربة هي مصدر الرياضيات أي أنهم نفوا بأن تكون المعاني الرياضية مكتسبة عن طريق الملاحظة الحسية . لكن هؤلاء الفلاسفة لم يكتفوا بهذه المسلمات بل دعموها بحجج وأدلة أهمها :
فالحجة الأولى تتمثل في أنهم أكدوا بأن هناك اختلاف في المفاهيم الرياضية كالمكان الهندسي ، و اللانهايات ، والدوال والكسور و الأعداد ... والطبيعة التي لا تحتوي على هذه الموضوعات الرياضية المجردة ، مثال ذلك فالنقطة الهندسية التي لا تحتوي على ارتفاع ولا على طول ولا على عرض فهي تختلف عن النقطة الحسية التي تشغل حيزا ونفس الشيء بالنسبة للمفاهيم الأخرى. أما الحجة الثانية فقد أكدها الفيلسوف اليوناني أفلاطون حيث يعتقد بأن المعاني الرياضية مصدرها العقل الذي كان يحي في عالم المثل ، وكان على علم بكافة الحقائق بما فيها المعاني الرياضية كالخطوط و الأشكال و الأعداد ، حيث تتصف بأنها واحدة و ثابتة ، وما على الإنسان في هذا العالم الحسي إلا بتذكرها ويدركها العقل بوحده . و نأتي على الحجة الأخيرة التي جاء بها الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي أن المفاهيم الرياضية من أعداد وأشكال هي أفكار فطرية و تتصف بالبداهة و اليقين ، فمفهوم اللانهاية لا يمكن أن يكون مكتسبا من التجربة الحسية لأن التجربة متناهية .
ب – نقد أنصار الأطروحة ← إن هذه الأطروحة لها مناصرين وهم أصحاب المذهب العقلاني و المذهب المثالي عموما وخاصة كانط الذين فسروا الرياضيات تفسيرا عقليا و هذا بإرجاعها إلى المبادئ العقلية التي يولد الإنسان و هو مزود بها حيث يعتقد كانط بأن الزمان و المكان و هما مفهومان رياضيان ، وبالتالي صورتان قبليتان فطريتان ، والدليل على ذلك أن المكان التجريبي له سمك ومحدود ، بينما المكان الرياضي مستوي و غير متناهي .... لكن موقف هؤلاء المناصرين تعرض لعدة انتقادات نظرا لأنه ينطوي على نقائص أهمها :
- لو كانت المفاهيم الرياضية فطرية كما يدعي هؤلاء الفلاسفة لوجدناها عند الطفل الصغير بطابعها المجرد ، لكن الواقع يؤكد أن الطفل لا يفهم المعاني الرياضية إلا إذا استعان بأشياء محسوسة كالأصابع و الخشيبات ...كما انه لو كانت هذه المفاهيم فطرية في عقل الإنسان ، فلماذا لا يأتي بها دفعة واحدة ؟ مع العلم أن هذه المعاني تتطور الرياضيات عبر العصور التاريخية وهذا بظهور ما يعرف بالهندسة اللاإقليدية المعاصرة التي تختلف عن الهندسة الكلاسيكية الإقليدية و هذا يدل على أن العقل لا يعتبر المصدر الوحيد لها .
إن هذه الانتقادات الموجهة لأنصار الأطروحة هي التي تدفعنا إلى البحث عن حجج و أدلة أخرى للإكثار من إبطالها ودحضها .
ج – إبطال الأطروحة بحجج شخصية شكلا و مضمونا ←
إن أنصار النظرية العقلية المثالية قد تطرفوا و بالغوا في تفسيرهم لنشأة الرياضيات بتركيزهم على العقل وحده ، بينما هو عاجز عن إدراك هذه المعاني الرياضية أحيانا ، و أهملوا دور الملاحظة الحسية التي تساهم بدورها في وجود هذه المفاهيم ،، وهذا ما أكده أنصار النظرية التجريبية و المذهب التجريبي عموما و خاصة جون ستيوارت مل الذين يعتقدون بأن الرياضيات مكتسبة عن طريق تجربة الحسية بدليل الاستقراء التاريخي يؤكد بأن تجربة مسح الأراضي كما مارسها قدماء المصريين قد ساعدت على نشوء ما يعرف بالهندسة . كما أن الواقع يؤكد بأن الطبيعة تنطوي على أشكال هندسية بدليل قرص الشمس يوحي لنا بالدائرة ، والجبل بالمثلث لهذا يقول مل " إن النقط والخطوط و الدوائر الموجودة في أذهاننا هي مجرد نسخ للنقط و الخطوط و الدوائر التي نراها في تجربتنا الحسية ... "
حل المشكلة
إذن نستنتج بأن الأطروحة : " إن المفاهيم الرياضية فطرية و بالتالي مصدرها العقل " ، باطلة و بالتالي لا يمكن الأخذ برأي مناصريها لأن الواقع و التاريخ يؤكدان بأن المفاهيم الرياضية نشأت نشأة تجريبية ثم تطورت فيما بعد إلى مفاهيم عقلية مجردة ، لهذا فهذه الأطروحة فاسدة بحجج كافية .
المشكلة الثانية : فلسفة العلوم التجريبية
مقارنة بين الملاحظة العادية و الملاحظة العلمية
طرح المشكلة:
يسعى الإنسان إلى التكيف مع الطبيعة بإعتبارها جزءا منه يهدف ذلك إلى الكشف عن الحقيقة فإذا كان سعيه إلى منفعة يحققها كانت ملاحظته عادية أما إذا كان سعيه الكشف عن الحقيقة كانت ملاحظته علمية ، فما طبيعة العلاقة بين الملاحظتين العلمية و العادية؟ و ما الفرق بينهما؟
محاولة حل المشكلة:
أوجه التشابه:
إن كل من الملاحظتين مشاهدة حسية للظواهر الموجودة فــــي الطبيعة تعكسان قلق الإنسان وفضوله من أجل إدراك هذا العالم وبالتالـــــي فهما خاصية إنسانية تميز الإنسان عن باقي المخلوقات الأخـــــرى فالرجل العادي والعالم كلاهما تستوقفهما بعض القضايا التي تلفت الانتباه يوميا مثال : سقوط الأمطار،أو تعاقب الليل و النهار...،وكلاهما يهدف إلى تحقيق المعرفة يقول أرسطو :" من فقد حاسة فقد، فقد معرفة".
أوجه الاختلاف:
إن وجود أوجه تشابه بين الملاحظتين العادية و العلمية لا يعني غياب إختلاف فالملاحظة العلمية تتميز بالدقة والتحليل والبرهنة والوضوح بإعتبارهامتعمقة,تتضمن تدخلا إيجابيا للعقل لإدراك العلاقات التي تقوم بين الوقائع التـــي تنتمي لظاهرة محل دراسة, الباحث عندما يلاحظ ظاهـــــــــرة لا ينظر إليها كما تتجلى في شعوره والصورة التي تحملها إليه حواسه بل يوجهها عقله وحسه باحثا عن أسبابها وخصائصها كما حدث مع نيوتن في ملاحظته لظاهرة سقوط التفاحة ، في حين أن الملاحظـــة العادية مؤقتة لا تسعى للوصول إلى الأسباب الحقيقية للظواهر فهي عفوية سطحية "ذلك أن ملايين الناس لاحظوا ظاهرة سقوط التفاحة و لكن ذلك لم يحرك فضولهم للبحث عن ماهية الجاذبية،كما أن اللغة التــي تعتمدها الملاحظة العلمية رمزية كمية نعبر عنا بالقوانين في حين أن لغـــة الملاحظة العادية لغة وصفية لا ترقى إلى مستوى الظاهرة كما هي.و الملاحظة العلمية هي موضوعية هدفها إنشاء الفرض العلمي بإعتبارها خطوة هامة من خطوات المنهج التجريبـي في حين أن الملاحظة العادية ليس لها غايات نظرية وهي تعتمد العاطفة والشعور والميول أقرب إلى الذاتية منها إلى الموضوعية.مثلا فالإنسان العادي ينظر إلى الغراب أنه مصدر تشاؤم و ليس على أنه كائن حي من صنف الطيور.
أوجه التداخل:
إن العلاقة بين الملاحظة العادية والملاحظة العلمية هي علاقة دافعية يعكسها الفضول الناتج عن الملاحظة العادية وما تاريخ العلم إلا دليل على ذلك فكثير من العلماء كانت ملاحظتهم الأولــــــى عادية ولكنها وصلت إلى مستوى الملاحظة العلمية .فنيوتن عند سقوط التفاحة المرة الأولـى كانت ملاحظته عادية ولكن عند إمعان النظر والبحث عن الأسباب الحقيقية أدت به إلى إكتشاف الجاذبية.
و حسب رأيي الشخصي تعتبر الملاحظة العادية هي المنطلق أو الأساس الرئيسي للملاحظة العلمية و الملاحظة العادية يتم إطفاء عليها الجانب العلمي و تصبح منظمة عن طريق الملاحظة العلمية.
حل المشكلة:
رغم الاختلاف القائم بين الملاحظة العلمية والملاحظة العادية إلا أنهما يعكســـان تأقلم الإنسان وتكيفه مع الطبيعة وسعيه الدائم إلى اكتشاف الحقيقة
هل يمكن إخضاع المادة الحية للمنهج التجريبي على غرار المادة الجامدة ؟هل يمكن التجريب في البيولوجيا في ظل العوائق المطروحة؟
طرح المشكلة :تختلف المادة الحية عن الجامدة من حيث طبيعتها المعقدة ، الأمر الذي جعل البعض يؤمن أن تطبيق خطوات المنهج التجريبي عليها بنفس الكيفية المطبقة في المادة الجامدة متعذرا ، و يعتقد آخرون أن المادة الحية كالجامدة من حيث مكوناتها مما يسمح بإمكانية إخضاعها للدراسة التجريبية ، فهل يمكن فعلا تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية على غرار المادة الجامدة ؟
محاولة حل المشكلة :
1- أ- الاطروحة :يرى البعض ، أنه لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الحية بنفس الكيفية التي يتم فيها تطبيقه على المادة الجامدة ، إذ تعترض ذلك جملة من الصعوبات و العوائق ، بعضها يتعلق بطبيعة الموضوع المدروس ذاته و هو المادة الحية ، و بعضها الأخر إلى يتعلق بتطبيق خطوات المنهج التجريبي عليها .
1-ب- الحجة : و يؤكد ذلك ، أن المادة الحية – مقارنة بالمادة الجامدة – شديدة التعقيد نظرا للخصائص التي تميزها ؛ فالكائنات الحية تتكاثر عن طريق التناسل للمحافظة على النوع و الاستمرار في البقاء . ثم إن المحافظة على توازن الجسم الحي يكون عن طريق التغذية التي تتكون من جميع العناصر الضرورية التي يحتاجها الجسم . كما يمر الكائن الحي بسلسلة من المراحل التي هي مراحل النمو ، فتكون كل مرحلة هي نتيجة للمرحلة السابقة و سبب للمرحلة اللاحقة . هذا ، و تعتبر المادة الحية مادة جامدة أضيفت لها صفة الحياة من خلال الوظيفة التي تؤديها ، فالكائن الحي يقوم بجملة من الوظائف تقوم بها جملة من الأعضاء ، مع تخصص كل عضو بالوظيفة التي تؤديها و إذا اختل العضو تعطلت الوظيفة و لا يمكن لعضو آخر أن يقوم بها . و تتميز الكائنات الحية – أيضا – بـالوحدة العضوية التي تعني أن الجزء تابع للكل و لا يمكن أن يقوم بوظيفته إلا في إطار هذا الكل ، و سبب ذلك يعود إلى أن جميع الكائنات الحية – باستثناء الفيروسات – تتكون من خلايا .
بالإضافة إلى الصعوبات المتعلقة بطبيعة الموضوع ، هناك صعوبات تتعلق بالمنهج المطبق و هو المنهج التجريبي بخطواته المعروفة ، و أول عائق يصادفنا على مستوى المنهج هو عائق الملاحظة ؛ فمن شروط الملاحظة العلمية الدقة و الشمولية و متابعة الظاهرة في جميع شروطها و ظروفها و مراحلها ، لكن ذلك يبدو صعبا ومتعذرا في المادة الحية ، فلأنها حية فإنه لا يمكن ملاحظة العضوية ككل نظرا لتشابك و تعقيد و تداخل و تكامل و ترابط الأجزاء العضوية الحية فيما بينها ، مما يحول دون ملاحظتها ملاحظة علمية ، خاصة عند حركتها أو أثناء قيامها بوظيفتها . كما لا يمكن ملاحظة العضو معزولا ، فالملاحظة تكون ناقصة غير شاملة مما يفقدها صفة العلمية ، ثم إن عزل العضو قد يؤدي إلى موته ، يقول أحد الفيزيولوجيين الفرنسيين : « إن سائر أجزاء الجسم الحي مرتبطة فيما بينها ، فهي لا تتحرك إلا بمقدار ما تتحرك كلها معا ، و الرغبة في فصل جزء منها معناه نقلها من نظام الأحياء إلى نظام الأموات ».
و دائما على مستوى المنهج ، هناك عائق التجريب الذي يطرح مشاكل كبيرة ؛ فمن المشكلات التي تعترض العالم البيولوجي مشكلة الفرق بين الوسطين الطبيعي و الاصطناعي ؛ فالكائن الحي في المخبر ليس كما هو في حالته الطبيعية ، إذ أن تغير المحيط من وسط طبيعي إلى شروط اصطناعية يشوه الكائن الحي و يخلق اضطرابا في العضوية و يفقد التوازن .
و معلوم أن التجريب في المادة الجامدة يقتضي تكرار الظاهرة في المختبر للتأكد من صحة الملاحظات والفرضيات ، و إذا كان الباحث في ميدان المادة الجامدة يستطيع اصطناع و تكرار الظاهرة وقت ما شاء ، ففي المادة الحية يتعذر تكرار التجربة لأن تكرارها لا يؤدي دائما إلى نفس النتيجة ، مثال ذلك أن حقن فأر بـ1سم3 من المصل لا يؤثر فيه في المرة الأولى ، و في الثانية قد يصاب بصدمة عضوية ، و الثالثة تؤدي إلى موته ، مما يعني أن نفس الأسباب لا تؤدي إلى نفس النتائج في البيولوجيا ، و هو ما يلزم عنه عدم إمكانية تطبيق مبدأ الحتمية بصورة صارمة في البيولوجيا ، علما أن التجريب و تكراره يستند إلى هذا المبدأ .
و بشكل عام ، فإن التجريب يؤثر على بنية الجهاز العضوي ، ويدمر أهم عنصر فيه وهو الحياة .
و من العوائق كذلك ، عائق التصنيف و التعميم ؛ فإذا كانت الظواهر الجامدة سهلة التصنيف بحيث يمكن التمييز فيها بين ما هو فلكي أو فيزيائي أو جيولوجي وبين أصناف الظواهر داخل كل صنف ، فإن التصنيف في المادة الحية يشكل عقبة نظرا لخصوصيات كل كائن حي التي ينفرد بها عن غيره ، ومن ثـمّ فإن كل تصنيف يقضي على الفردية ويشوّه طبيعة الموضوع مما يؤثر سلبا على نتائج البحث .
وهذا بدوره يحول دون تعميم النتائج على جميع أفراد الجنس الواحد ، بحيث أن الكائن الحي لا يكون هو هو مع الأنواع الأخرى من الكائنات ، ويعود ذلك إلى الفردية التي يتمتع بها الكائن الحي .
1-جـ- النقد : لكن هذه مجرد عوائق تاريخية لازمت البيولوجيا عند بداياتها و محاولتها الظهور كعلم يضاهي العلوم المادية الأخرى بعد انفصالها عن الفلسفة ، كما أن هذه العوائق كانت نتيجة لعدم اكتمال بعض العلوم الاخرى التي لها علاقة بالبيولوجيا خاصة علم الكيمياء .. و سرعان ما تــمّ تجاوزها .
2-أ- نقيض الأطروحة : وخلافا لما سبق ، يعتقد البعض أنه يمكن إخضاع المادة الحية إلى المنهج التجريبي ، فالمادة الحية كالجامدة من حيث المكونات ، وعليه يمكن تفسيرها بالقوانين الفيزيائية- الكميائية أي يمكن دراستها بنفس الكيفية التي ندرس بها المادة الجامدة . ويعود الفضل في إدخال المنهج التجريبي في البيولوجيا إلى العالم الفيزيولوجي ( كلود بيرنار ) متجاوزا بذلك العوائق المنهجية التي صادفت المادة الحية في تطبيقها للمنهج العلمي .
2-ب- الأدلة : و ما يثبت ذلك ، أنه مادامت المادة الحية تتكون من نفس عناصر المادة الجامدة كالأوكسجين و الهيدروجين و الكربون و الآزوت و الكالسيوم و الفسفور ... فإنه يمكن دراسة المادة الحية تماما مثل المادة الجامدة .
هذا على مستوى طبيعة الموضوع ، أما على مستوى المنهج فقد صار من الممكن القيام بالملاحظة الدقيقة على العضوية دون الحاجة إلى فصل الأعضاء عن بعضها ، أي ملاحظة العضوية وهي تقوم بوظيفتها ، و ذلك بفضل ابتكار وسائل الملاحظة كالمجهر الالكتروني و الأشعة و المنظار ...
كما أصبح على مستوى التجريب القيام بالتجربة دون الحاجة إلى إبطال وظيفة العضو أو فصله ، و حتى و إن تــمّ فصل العضو الحي فيمكن بقائه حيا مدة من الزمن بعد وضعه في محاليل كيميائية خاصة .
2-جـ- النقد : ولكن لو كانت المادة الحية كالجامدة لأمكن دراستها دراسة علمية على غرار المادة الجامدة ، غير أن ذلك تصادفه جملة من العوائق و الصعوبات تكشف عن الطبيعة المعقدة للمادة الحية . كما انه إذا كانت الظواهر الجامدة تفسر تفسيرا حتميا و آليا ، فإن للغائية اعتبار و أهمية في فهم وتفسير المادة الحية ، مع ما تحمله الغائية من اعتبارات ميتافيزيقية قد لا تكون للمعرفة العلمية علاقة بها .
3- التركيب : و بذلك يمكن القول أن المادة الحية يمكن دراستها دراسة العلمية ، لكن مع مراعاة طبيعتها وخصوصياتها التي تختلف عن طبيعة المادة الجامدة ، بحيث يمكن للبيولوجيا أن تستعير المنهج التجريبي من العلوم المادية الأخرى مع الاحتفاظ بطبيعتها الخاصة ، يقول كلود بيرنار : « لابد لعلم البيولوجيا أن يأخذ من الفيزياء و الكيمياء المنهج التجريبي ، مع الاحتفاظ بحوادثه الخاصة و قوانينه الخاصة ».
حل المشكلة :وهكذا يتضح أن المشكل المطروح في ميدان البيولوجيا على مستوى المنهج خاصة ، يعود أساسا إلى طبيعة الموضوع المدروس و هو الظاهرة الحية ، والى كون البيولوجيا علم حديث العهد بالدراسات العلمية ، و يمكنه تجاوز تلك العقبات التي تعترضه تدريجيا .
هل يمكن تفسير الظواهر الحية تفسيرا غائيا ؟
طرح المشكلة :
إن موضوع البيولوجيا هو الظواهر الحية ، التي تقوم بمجموعة من الوظائف تؤديها مجموعة من الاعضاء . وماهو ملاحظ ذلك التوافق الموجود بين تركيب العضو والوظيفة التي يقوم بها ، وهو ما جعل البعض يعتقد ان وظيفة العضو الحي هي الغاية التي جاء من أجلها ، مما يفترض الاخذ بالتفسير الغائي في البيولوجيا ، لكن هل التفسير الغائي كافٍ لفهم الظواهر الحية ؟ وهل هو تفسير مشروع من وجهة نظر الروح العلمية ؟
محاولة حل المشكلة :
1-أ- الاطروحة : يرى البعض ، انه لا يمكن فهم وتفسير الظواهر البيولوجية وتركيب الاعضاء الحية الا بمعرفة الغايات التي جاءت من أجلها ، حيث ان كل عضو وكل جهاز انما جاء من أجل غاية معينة هي الوظيفة التي يؤديها . مما يعني التسليم بأن الوظيفة اسبق من العضو ؛ فالعين خلقت للإبصار والاذن للسمع ، والجهاز التنفسي خلق من اجل مد الجسم بطاقة الاحتراق ، والجهاز الهضمي من اجل تحويل المادة الغذائية الى احماض امينية .. وكل ذلك من اجل غاية اعظم هي المحافظة على توازن الجسم الحي .
1-ب- الحجة : وما يثبت ذلك ، ما تبدو عليه الاعضاء من تركيب محكم ينسجم مع الوظائف التي تقوم بها ، واذا اختل العضو تعطلت الوظيفة ولا يمكن لعضو آخر أن يقوم بها ، كما يتجلى في اختصاص بعض الاعضاء ببعض الوظائف وعمل هذه الاعضاء ، بحيث يتحقق من عملها انتظام داخلي في العضوية كلها .
1-جـ- النقد : لكن التفسير بالغايات هو في حقيقة جواب عن السؤال (( لماذ ؟)) وهو سؤال فلسفي ، مما يعني ان التفسير الغائي يقحم اعتبارات فلسفية ميتافيزيقية لا علاقة للعلم بها ، وهذا يتناقض مع الروح العلمية التي تتطلب التفسير الوضعي الذي يفسر الظاهرة بظاهرة اخرى معلومة ، ويتناقض ثانيا مع هدف العلم الذي ينطلق من المعلوم لكشف المجهول وليس العكس .
2-أ- نقيض الاطروحة : وبخلاف ذلك ، يرى انصار الالية ان التفسير الغائي ليس مشروعا من الناحية العلمية ، حيث لا يمكن فهم الظواهر الحية الا اذا فسرناه بما هو معلوم ، أي بردها الى قوانين الفيزياء والكيمياء ، واعتبار الظاهرة الحية ظاهرة جامدة تعمل بصورة آلية وتخضع لمبدا الحتمية .
وهذا يعني ان العضو اسبق من الوظيفة ، فالطائر يطير لأن له جناحان والانسان يبصر لأن له عينان .. وان التوافق بين العضو والوظيفة تــمّ " صدفة " ، فالعضو مر بمراحل من التطور ولم صادف الوظيفة التي يقوم بها توقف عن التطور .
2-ب- الحجة : وما يؤكد ذلك ، أنه من الناحية الكيميائية أن المادة الحية تعتمد على نفس العناصر التي تتكون منها المادة الجامدة ، فالأكسجين يدخل في تركيب الجسم بنسبة 70% والكربون بنسبة 18% والهيدروجين بنسبة 10% وكذا الازوت والكالسيوم والفسفور بنسب متفاوتة .. ومادام الامر كذلك يمكن تفسيرها بنفس القوانين التي نفسر بها المادة الجامدة .
ثم ان عمليتي التنفس والهضم ليسا الا تفاعلين كيميائيين لا يختلفان عن التفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل المختبر.
ومن الناحية الفيزيائية ، يمكن تطبيق قوانين الفيزياء على الظواهر الحية ، من ذلك مثلا قوانين الميكانيك بالنسبة الى القلب ، فهذا الاخير لا يختلف في عمله اثناء الدورة الدموية الصغرى والكبرى عن محرك السيارة .
كما ينطبق مبدا الحتمية على الظواهر الحية بنفس الصورة الصارمة التي ينطبق بها على المادة الجامدة ، من ذلك مثلا انتظام الحرارة في الجسم الذي يتم آليا مهما اختلفت الظروف المناخية ، فعندما تنخفض الحرارة في المحيط الخارجي يفرز الجسم شحنة من مادة الادرينالين في الدم فتنشط عملية التأكسد وترتفع حرارة العضوية ، ويحدث العكس بصفة آلية عندما ترتفع حرارة المحيط الخارجي . كما نجد الارتباط الآلي بين مختلف الوظائف ، ففي الهضم مثلا نجد سلسلة من الوظائف تبدا بوظيفة الاسنان ثم وظيفة اللعاب ثم وظيفة الإنزيمات او خمائر الهضم الى ان تتحول المادة الغذائية الى سائل .
2-جـ- النقد : في الحقيقة ليس صحيحا ان المادة الحية مماثلة للمادة الجامدة من حيث التركيب كما يزعم الآليون ، فمن بين 92 عنصرا تتكون منها المادة الحية تختلف عن المادة الجامدة في 14 عنصرا ، ولو كانتا متماثلتان لأمكن تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الحية بنفس السهولة التي تم تطبيقه على المادة الجامدة ، لكن ذلك صادفته صعوبات وعوائق تكشف عن الطبيعة المعقدة للمادة الحية .
كما نجد في موقف الآليين تناقضا ، ففي الوقت الذي يدعون فيه الى استبعاد التفسير الغائي باعتباره يتناقض مع روح العلم ، نجدهم يفسرون التوافق بين تركيب العضو ووظيفته بـ " الصدفة " ، والتفسير بالصدفة لا يقبله العلم ويرفضه العقل ، لأن الصدفة – كما قال بوانكاري – مقياس جهلنا .
3- التركيب : ان التفسير الغائي تفرضه طبيعة الكائن الحي ، ذلك لأن الظواهر الحية يسود اجزائها نوع من التكامل يظهر في صورة فكرة موجهة او غاية محددة ، وهي في ذات الوقت يمكن ان تنطبق عليها قوانين الفيزياء والكيمياء على غرار المادة الجامدة ، لذلك فالتفسير الغائي والالي كليهما ضروريان لفهم النشاط الحيوي .
حل المشكلة: وهكذا يتضح ، أن التفسير الغائي مشروعا متى بقي الباحث في اطار الظواهر الملاحَظَة ، ولم يتجاوز الى طلب اسبابها الميتافيزيقية .
فند أطروحة "بونوف"القائلة:"ليس من الغريب إطلاقا إثبات أن البيولوجيا التحليلية(التشريحية)تقضي عمليا على موضوع دراستها"
طرح المشكلة :إن التطور الذي عرفه المنهج التجريبي في مجال الدراسات البيولوجية في العصر الحديث نتج عنه اعتقاد شائع أن الظاهرة الحية مثل الظواهر الجامدة يمكن إخضاعها للتجريب وفهمها فهما دقيقا ودون أية صعوبة ولا أي مشكلة،إلا أن بعض المفكرين ومن بينهم "بونوف"ذهب إلى إثبات العكس قائلا :" إن البيولوجيا التحليلية تقضي عمليا على موضوع دراستها "وطلب مني إبطال هذه الأطروحة فكيف يمكن لي تحقيق ذلك؟
محاولة حل المشكلة:
1 ـ عرض منطق الأطروحة:
تحليل مقولة بونوف"ليس من الغريب ........دراستها" منطقها يتمثل في الاعتراض على تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الحية
المبررات :طبيعة الظاهرة البيولوجية كونها تتميز بخصائص معقدة ومختلفة على الظواهر الجامدة فنجد صعوبات منها : صعوبة التجريب لأن الظاهرة الحية من طبيعة معقدة ومتشابكة في أجزائها وعناصرها فمن المستحيل عزل عنصر بمفرده لدراسته وحده وأي محاولة للتفكيك والتحليل سيقضي على الظاهرة الحية نفسها فتعطل وظيفتها وتتوقف حياتها يقول كوفي :"إن سائر أجزاء الجسم الحي مرتبطة فيما بينها فهي لا تستطيع الحركة بقدر ما تتحرك كلها معا والرغبة في فصل جزء من الكتلة معناها نقله إلى نظام الذوات الميتة ومعناها أيضا تبديل ماهيته تبديلا تاما " مثال القيام بعملية جراحية على القلب .
2 ـ إبطال الأطروحة بحجج شخصية:
إن الذين قللوا من أهمية الدراسات العلمية في مجال البيولوجيا بحجة صعوبة التجريب على الظاهرة الحية موقف فيه مبالغة سلبية وصلت إلى حد النفي لكل دراسة تجريبية ممكنة .إلا أن التطور الذي عرفته العلوم البيولوجية بعد اكتشاف الوسائل والأجهزة والتقنيات العلمية المتطورة وظهور التخصصات في مجال" بيولوجيا الإنسان والحيوان والنبات "استطاع العلماء تدليل هذه الصعوبات وتجاوزها ،وخير دليل على ذلك العالم البيولوجي "كلود بيرنارد"الذي يعود له الفضل في إدخال المنهج التجريبي إلى البيولوجيا ،وقام بتجارب علمية حقق نجاحات واسعة منها :تجربته على البنكرياس ،ومن بعده أيضا العالم "باستور"وتجاربه البارعة على البيكتيريا .، كما أ ن الطب الحديث في ميدان "زراعة الأعضاء"والقيام ببتر الأعضاء من جسم الكائن الحي ووضعها في سائل بغرض بقائها حية ثم نقلها إلى جسم آخر بعد فحوصات دقيقة .
3 ـ نقد أنصار الأطروحة:
تعتبر النزعة الإحيائية في البيولوجيا (هنري برغسون ،بونوف،أرسطو .....(هؤلاء الفلاسفة بنزعتهم الفلسفية الروحانية أنكروا الدراسة التجريبية على الظواهر الحية واستبعدوا فكرة إخضاعها لمبدأ الحتمية والتجريب مبررين ذلك على أنها ظواهر فيها "الروح"كغاية تجعلها حية ،إلا أن هذا التفسير الميتافيزيقي مؤسس على اعتبارات ذاتية وغامضة بعيدة عن التفسيرات العلمية الموضوعية ولعل هذا السبب هو الذي جعل الدراسات البيولوجية تتراجع.
حل المشكلة :نستنج في الأخير أن الأطروحة القائلة "ليس من الغريب ..............دراستها " أطروحة فاسدة ولا يمكن الأخذ برأي مناصريها
المشكلة الثالثة : فلسفة العلوم الإنسانية :
هل يمكن إخضاع الظاهرة الإنسانية للتجريب ؟
طرح المشكلة :
تعتبر الظواهر الطبيعية من أكثر الظواهر استعمالا التجريب وبقدر ما تتعقد الظاهرة أكثر بقدر ما يصعب التجريب عليها ومن الأكثر الظواهر تعقيدا الظاهرة الإنسانية فمادام الإنسان يتأثر ويؤثر في الآخرين وهو بذلك يتغير من حال إلى حال آخر ولا يبقى حول وتيرة واحدة وحولها ظهر خلال حاد بين المفكرين والفلاسفة موقف يرى أن العلوم الإنسانية بإمكانها أن تخضع إلى التجريب والبعض الآخر يرى باستحالة التجريب على العلوم الإنسانية والإشكالية المطروحة هل يمكن إخضاع الظاهرة الإنسانية إلى التجريب ؟
محاولة حل المشكلة:
أ - الأطروحة : عرض منطوق المذهب الأول وذكر بعض ممثليه
يمكن إخضاع الظاهرة الإنسانية للتجريب وتمثله كل من مالك بن النبي وابن خلدون حيث ذهبوا بالقول إن التجربة أمر ممكن على الظاهرة الإنسانية فهي جزء من الظاهرة الطبيعية ثم سهولة التجربة عليها ودراسة هذه الظاهرة دراسة العلمية ودليلهم على ذلك إن هناك الكثير من الدراسات النفسية والاجتماعية والتاريخية فالدراسة تدل على ومن ثم يستعمل التجربة وهي دراسات علمية خالية من الذاتية وهذا ما نجده عند ابن خلدون والمالك بن النبي وكذلك إن الملاحظة أمرممكن في الظاهرة الإنسانية لأنها ليست نفس الملاحظة المستعملة في الظواهر الطبيعية الأخرى فالملاحظة المستعملة هنا هي ملاحظة غير مباشرة بمعنى أن الباحث يعود إلى الآثار المادية والمعنوية التي لها صلة بالظاهرة المدروسة كذلك إن التجريب في العلوم الإنسانية يختلف عنه في العلوم الطبيعية ففي هاته العلوم يكون التجريب اصطناعي لكن في العلوم الإنسانية فيكون حسب ما تحتويه الظاهرة فالمثل الحوادث التاريخية يكون التجريب عليها عن طريق دراسة المصادر التاريخية الخاصة بهذه الظاهرة وتحليلها وتركيبها إضافة إلى هذا المبدأ السببي المتوفر في الظاهرة الإنسانية لأنها لا تحدث بدون سبب بمعناه أنها ظواهر غير قابلة للمصادفة مثلا سبب حدوث الثورة الجزائرية الاستعمار الذي يقيد الحريات أما مبدأ الحتمية فهو نسبي في هذه العلوم لأنها اليوم كيفية وليست كمية وتعدم وجود مقياس دقيق ومن الصعب أن يقف العالم موقف حياديا في العلوم الإنسانية ولكن هذا لا يعني انه لاستطيع أن يتحرر من أهوائه ورغباته والواقع
النقد شكلا ومضمونا :
شكلا : إما أن تكون الظاهرة الإنسانية تجريبية أو لا تجريبية
مضمونا : مهما حاولت العلوم الإنسانية تحقيق نتائج إلى أنها تبقى تفتقر إلى اليقين والدقة لان القياس أمر صعب التحقيق عليها إضافة إلى تدخل ذات الباحث في التفسير .
ب - نقيض الأطروحة : عرض منطوق المذهب الثاني وذكر بعض ممثليه :
استحالة التجريب على الظواهر الإنسانية يرى أنصار هذا التجريب غير ممكن على الظواهر الإنسانية لان الظواهر لا يمكن دراستها دراسة علمية فهي ترفض كل تطبيق تجريبي نظرا لطبيعة موضوعها وتمييزها بالتعقيد مستدلين على ذلك بأدلة والحجج أن العلوم الإنسانية تختص بالظواهر التي تتعلق بدراسة الإنسان فقط وبالتالي يكون الإنسان دارس ومدروس في نفس الوقت وهذا أمر صعب فهي علوم لا تتوفر على الموضوعية نظرا إلى طغيان التفسيرات الذاتية الخاصة بميول ورغبات الإنسان وهذا يؤدي إلى عدم الإقرار في حقيقة الموضوع ومن ثم تكون الملاحظة والتجربة أمرا غير ممكن في العلوم الإنسانية لان ظواهرها مرتبطة بزمان والمكان عدم تكرار التجربة يجعلها مستحيلة في هذه العلوم فهي ظواهر متغيرة ومعقدة وغير قابلة للتجزيء إضافة إلى هذه العوائق هناك عوائق أخرى تتمثل في تدخل معتقدات وتقاليد المجتمع في شخصية الباحث مما يجعه مقيد بها فعلوم المادة تختلف عن علوم الإنسانية نظرا لعدم تكرار الظاهرة الإنسانية وفي نفس الوقت وفقا للشروط والظروف المحددة هذا ما جعل صعوبة الدقة في التنبؤ لأنه إذا ما تمكن من ذلك استطاع أن يؤثر على هذه الظواهر لإبطال حدوثها أو على الأقل التأكد من حدوثها إن تعقد الظاهرة الإنسانية وتشابكها أدى إلى استحالة إخضاعها للمبدأ الحتمية وبالتالي صعوبة التنبؤ بما سيحدث في المستقبل .
النقد شكلا ومضمونا :
شكلا : إما أن تكون الظاهرة الإنسانية تجريبية أو لا تجريبية لكنها ليست تجريبية إذن فهي تجريبية
مضمونا : لكن التجريب ممكن على الظواهر الإنسانية وذلك لان العلوم الطبيعية تختلف عن العلوم الإنسانية من خلال الموضوع والمنهج.
ج - التركيب:
إن الظاهرة الإنسانية يمكن إخضاعها إلى التجريب لكن المفهوم يختلف عن العلوم الطبيعية وإذا كان المنهجان يختلفان في الخطوات فإنهما يتفقان في النتائج
الموقف الشخصي : يمكن تجريب على الظواهر الإنسانية لكن بمفهوم منسجم وطبيعتها .
حل المشكلة :
ما نستنتجه مما سبق /إن التجريب ممكن على العلوم الإنسانية لكن هناك بعض العوائق وذلك راجع إلى المنهج أو الموضوع بحد ذاته بحد ذاته.
هل للتاريخ مقعدا بين العلوم الأخرى ؟
طرح المشكلة :
إ ن العلوم الإنسانية هي مجموع الاختصاصات التي تهتم بدراسة مواقف الإنسان وأنماط سلوكه , وبذلك فهي تهتم بالإنسان , من حيث هو كائن ثقافي , حيث يهتم علم النفس بالبعد الفردي في الإنسان ويهتم علم الاجتماع بالبعد الاجتماعي , ويهتم التاريخ بالبعدين الفردي والاجتماعي معا لدى الإنسان , فالتاريخ هو بحث في أحوال البشر الماضية في وقائعهم وأحداثهم وظواهر حياتهم وبناء على هذا فإن الحادثة التاريخية تتميز بكونها ماضية ومن ثمة فالمعرفة التاريخية معرفة غير مباشرة لا تعتمد على الملاحظة ولا على التجربة الأمر الذي يجعل المؤرخ ليس في إمكانه الانتهاء إلى وضع قوانين عامة والعلم لا يقوم إلا على قوانين كلية وعلى هذا الأساس فهل هذه الصعوبات تمنع التاريخ من أن يأخذ مكانه بين مختلف العلوم الأخرى ؟ أو بمعنى آخر هل خصوصية الحادثة التاريخية تمثل عائقا أمام تطبيق الأساليب العلمية في دراستها ؟
محاولة حل المشكلة :
الأطروحة الأولى :التاريخ ليس علما وحوادثه لا تقبل الدراسة العلمية :
يذهب بعض المفكرين إلى أن الحوادث التاريخية لا تخضع للدراسة العلمية لأن الخصائص التي تقوم عليها الحادثة التاريخية تمثل عائقا أمام تطبيق الأساليب العلمية في دراستها , ومن هذه الخصائص أن الحادثة التاريخية حادثة إنسانية تخص الإنسان دون غيره من الكائنات , واجتماعية لأنها لا تحدث إلا في مجتمع إنساني فالمؤرخ لا يهتم بالأفراد إلا من حيث ارتباطهم وتأثير في حياة الجماعة , وهي حادثة فريدة من نوعها لا تتكرر , محدودة في الزمان والمكان ... وبناء على هذه العوائق التي تقف أمام تطبيق الدراسة العلمية في التاريخ قامت اعتراضات أساسية على القول أمام تطبيق الدراسة العلمية في التاريخ قامت اعتراضات أساسية على القول بأن التاريخ علم منها : انعدام الملاحظة المباشرة للحادثة التاريخية كون حوادثها ماضية وهذا على خلاف الحادث العلمي في الظواهر الطبيعية فإنه يقع تحت الملاحظة المباشرة , ثم استحالة إجراء التجارب في التاريخ وهو ما يجعل المؤرخ بعيدا عن إمكانية وضع قوانين عامة , فالعلم لا يقوم إلا على الأحكام الكلية كما يقول أرسطو : " لا علم إلا بالكليات " . هذا بالإضافة إلى تغلب الطابع الذاتي في المعرفة التاريخية لأن المؤرخ إنسان ينتمي إلى عصر معين ووطن معين ...الخ , وهذا يجعله يسقط ذاتيته بقيمها ومشاغلها على الماضي الذي يدرسه ثم إن كلمة علم تطلق على البحث الذي يمكن من التنبؤ في حين أن نفس الشروط لا تؤدي إلى نفس النتائج وبالتالي لا قدرة على التنبؤ بالمستقبل في التاريخ .
مناقشة :إنه مما لا شك فيه أن هذه الاعتراضات لها ما يبررها من الناحية العلمية خاصة غير أنه ينبغي أن نؤكد بأن هذه الاعتراضات لا تستلزم الرفض القاطع لعملية التاريخ لأن كل علم له خصوصياته المتعلقة بالموضوع وبالتالي خصوصية المنهج المتبع في ذلك الموضوع فهناك بعض المؤرخين استطاعوا أن يكونوا موضوعيين إلى حد ما وان يتقيدوا بشروط الروح العلمية .
نقيض الأطروحة :التاريخ علم يتوخى الوسائل العلمية في دراسة الحوادث الماضية :
يذهب بعض المفكرين إلى القول بأن الذين نفوا أن تكون الحوادث التاريخية موضوعا للعلم لم يركزوا إلا على الجوانب التي تعيق الدراسة العلمية لهذه الحوادث فالظاهرة التاريخية لها خصوصياتها فهي تختلف من حيث طبيعة موضوعها عن العلوم الأخرى , وبالتالي من الضروري أن يكون لها منهج يخصها . وهكذا أصبح المؤرخون يستعملون في بحوثهم منهجا خاصا بهم وهو يقترب من المنهج التجريبي ويقوم على خطوط كبرى هي كالآتي :
أ- جمع المصادر والوثائق : فبعد اختيار الموضوع يبدأ المؤرخ بجمع الوثائق والآثار المتبقية عن الحادث فالوثائق هي السبيل الوحيد إلى معرفة الماضي وفي هذا يقول سنيويوس : " لا وجود للتاريخ دون وثائق , وكل عصر ضاعت وثائقه يظل مجهولا إلى الأبد " .
ب- نقد المصادر والوثائق : فبعد الجمع تكون عملية الفحص والنظر و التثبت من خلو الوثائق من التحريف والتزوير , وهو ما يعرف بالتحليل التاريخي أو النقد التاريخي وهو نوعان : خارجي ويهتم بالأمور المادية كنوع الورق والخط .. وداخلي يهتم بالمضمون
ج- التركيب الخارجي : تنتهي عملية التحليل إلى نتائج جزئية مبعثرة يعمل المؤرخ على تركيبها في إطارها الزمكاني فيقوم بعملية التركيب مما قد يترتب عن ذلك ظهور فجوات تاريخية فيعمل على سدها بوضع فروض مستندا إلى الخيال والاستنباط ثم يربط نتائجه ببيان العلاقات التي توجد بينهما وهو ما يعرف بالتعليل التاريخي . وعليه فالتاريخ علم يتوخى الوسائل العلمية للتأكد من صحة حوادث الماضي .
مناقشة :انه مما لا شك فيه أن علم التاريخ قد تجاوز الكثير من الصعوبات التي كانت تعوقه وتعطله ولكن رغم ذلك لا يجب أن نبالغ في اعتبار الظواهر التاريخية موضوعا لمعرفة علمية بحتة , كما لا يجب التسليم بأن الدراسات التاريخية قد بلغت مستوى العلوم الطبيعية بل الحادث التاريخي حادث إنساني لا يستوف كل شروط العلم .
التركيب :
إن للحادثة التاريخية خصائصها مثلما للظاهرة الحية أو الجامدة خصائصها وهذا يقتضي اختلافا في المنهج وهذا جعل من التاريخ علما من نوع خاص ليس علما إستنتاجيا كالرياضيات وليس استقرائيا كالفيزياء و إنما هو علم يبحث عن الوسائل العلمية التي تمكنه من فهم الماضي وتفسيره وعلى هذا الأساس فإن القول بأن التاريخ لا يمكن أن يكون لها علما لأنه يدرس حوادث تفتقر إلى شروط العلم أمر مبالغ فيه , كما أن القول بإمكان التاريخ أن يصبح علما دقيقا أمر مبالغ فيه أيضا وعليه فإن الحوادث التاريخية ذات طبيعة خاصة , مما استوجب أن يكون لها منهجا خاصا بها .
حل المشكلة :
العلم طريقة في التفكير ونظام في العلاقات أكثر منه جملة من الحقائق . إذ يمكن للمؤرخ أن يقدم دراسة موضوعية فيكون التاريخ بذلك علما , فالعلمية في التاريخ تتوقف على مدى التزام المؤرخ بالشروط الأساسية للعلوم . وخاصة الموضوعية وعليه فإن مقعد التاريخ بين العلوم الأخرى يتوقف على مدى التزام المؤرخين بخصائص الروح العلمية والاقتراب من الموضوعية
هل الشعور بالأنا يتوقف على الغير ؟
طرح المشكلة
من المشاكل النفسية التي ظلت تؤرق الإنسان هي محاولة التعرف على الذات في مختلف الصفات التي تخصها ؛ بحيث اتجه محور الاهتمام إلى تشكيل بنية الأنا عبر الغير الذي بإمكانه مساعدته إلا أن ذلك لم يكن في حال من الاتفاق بين الفلاسفة الذين انقسموا إلى نزعتين الاولى تعتقد أن مشاركة الأخر أي الغير أضحت أمرا ضروريا والنزعة الثانية تؤكد على وجوب أن يتشكل الأنا بمفرده عبر الشعور وأمام هذا الاختلاف في الطرح نقف عند المشكلة التالية : هل الشعور بالأنا يتوقف على الغير ؟ وبعبارة أوضح وأحسن هل الشعور بالأنا مرتبط بالأخر أم انه لا يتعدى الشخص؟
محاولة حل المشكلة
الأطروحة : الشعور بالأنا مرتبط بالغير يرى أنصار الأطروحة أن الشعور بالأنا يرتبط بالغير فلا وجود لفردية متميزة بل هناك شعور جماعي موحد ويقتضي ذلك وجود الأخر والوعي به .
البرهنة : يقدم أنصار الأطروحة مجموعة من البراهين تقوية لموقفهم الداعي إلى القول بان الشعور بالأنا يكون بالغير هو انه لامجال للحديث عن الأنا خارج الأخر
الذي يقبل الأنا عبر التناقض والمغايرة ومن هنا يتكون شعور أساسه الأخر عبر ما يسميه ديكارت بالعقل الذي بواسطته نستطيع التأليف بين دوافع الذات وطريقة تحديد كيفيات الأشياء والأشخاص وفي هذا السياق يعتقد الفيلسوف الألماني "هيغل " أن وجود الغير ضروري لوجود الوعي بالذات فعندما أناقض غيري أتعرف على أناي وهذا عن طريق الاتصال به وهنا يحصل وعي الذات وذات الغير في إطار من المخاطرة والصراع ومن هنا تتضح الصورة وهي أن الشعور بالأنا يقوم مقابله شعور بالغير كما انه لابد للانا أن يعي الأخر إلا أن الأخر ليس خصما ولا يتحول إلى شيء لابد من تدميره كما يعتقد البعض بل إلى مجال ضروري الاهتداء إليه لبناء ذات قوية فقد تختلف الذوات وتتنوع رؤى فكرية كثيرة ولكن لا يفسد ذلك ودا جماعيا وحتى وان استنطق الإنسان في نفسه غرائز الموت والتدمير الطبيعية فان مفهوم الصراع يناسب مملكة الحيوانات ومنطق قانون الغاب وهذا الأمر لا ينطبق على من خلقوا من اجل التعارف وليس بعيدا عن الصواب القول بان وعي الذات لا يصبح قابلا للمعرفة إلا بفعل وجود الأخر والتواصل معه في جو من التنافس والبروز ومن هنا يمكن التواصل مع الغير ولقد كتب المفكر المغربي محمد عزيز لحبابي " إن معرفة الذات تكمن في أن يرضى الشخص بذاته كما هو ضمن هذه العلاقة : "الأنا جزء من النحن في العالم "
وبالتالي فالمغايرة تولد التقارب والتفاهم ويقول تعالى : " ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين " .
وهكذا فالشعور بالأخر تسمح لنا بالمتوقع داخل شخصية الأخر والاتصال الحقيقي بالأخر كما يرى ماكس شيلر يتمثل في التعاطف ومنه لا غنى للانا عن الغير .
نقد الأطروحة يمكن الرد على هذه الأطروحة بالانتقادات التالية
إن الشعور بالأنا يتأسس على الغير لكن الواقع يؤكد بأنه قد يكون عائقا وليس محفزا لتكون ذات قوية فكل" أنا" يعيش مجالا خاصا وفي ذلك رغبة فردية وشخصية .
نقيض الأطروحة " الشعور بالأنا شخصي
يرى أنصار الأطروحة أن الأنا يعيش مع ذاته ويحيا مشاريعه بنفسه وبطريقة حرة أي كفرد حر وهذا الامتلاك يكون بمقدوره التعامل مع الواقع بشكل منسجم .
البرهنة : يقدم أنصار هذا النقيض جملة من البراهين في تأكيدهم على الشعور بالأنا على انه شخصي ولا مجال لتدخل الغير الذي يعتبره أنصار النقيض بأنه عقبة لا بد من تجاوزها ؛
ومن هذا المنطلق يؤكد الفيلسوف الفرنسي مان دوبيران على أن الشعور بالواقع ذاتي وكتب يقول : " قبل أي شعور بالشيء فلابد من أن الذات وجود " ومن مقولة الفيلسوف يتبين أن الوعي والشك والتأمل عوامل أساسية في التعامل مع الذات ووعيها ولقد كان سارتر اصدق تعبيرا عندما قال " الشعور هو دائما شعور بشيء
ولا يمكنه إلا أن يكون واعيا لذاته " ومن هنا يتقدم الشعور كأساس للتعرف على الذات كقلعة داخلية حيث يعيش الأنا داخل عالم شبيه بخشبة المسرح وتعي الذات ذاتها
عن طري ما يعرف بالاستبطان فالشعور مؤسس للانا والذات الواعية بدورها تعرف أنها موجودة عن طريق الحدس ويسمح لها ذلك بتمثيل ذاتها عقليا ويكون الحذر من وقوف الآخرين وراء الأخطاء التي نقع فيها ولقد تساءل" أفلاطون"
قديما حول هذه الحقيقة في أسطورة الكهف المعروفة أن ما يقدمه لنا وعينا ماهو إلا ظلال وخلفها نختبئ حقيقتنا كموجودات " كما يحذر سبينوزا من الوهم الذي يغالط الشعور الذي لابد أن يكون واضحا خاصة على مستوى سلطان الرغبات والشهوات ومن هنا فقد الجحيم هم الآخرون على حد تعبير أنصار النقيض فيريد الأنا فرض وجوده وإثباته
ويدعو فرويد إلى التحرر الشخصي من اكراهات المجتمع للتعرف على قدرة الأنا في إتباع رغباته رغم أنها لا شعورية وهكذا فألانا لا يكون أنا إلا إذا كان حاضرا إزاء ذاته أي ذات عارفة .
نقد نقيض الأطروحة ان هذا النقيض ينطلق من تصور يؤكد دور الأنا في تأسيس ذاته ولكن من زاوية أخرى نلاحظه قاصرا في إدراكها والتعرف عليها فليس في مقدور الأنا التحكم في ذاته وتسييرها في جميع الاحوال ففي ذلك قصور .
التركيب: من خلال لعرض الأطروحتين يتبين أن الأنا تكوين من الأخر كما انه شخصي هذا التأليف يؤكد عليه الفيلسوف الفرنسي غابريال مارسيل عن طريق التواصل أي رسم دائرة الانفراد دون العزلة عن الغير أي تشكيل للانا جماعي وفردي أي تنظيم ثنائي يكون ذات شاعرة ومفكرة في نفس الوقت .
حل المشكلة
يمكن القول في الختام أن الشعور بالأنا يكون جماعيا عبر الأخر كما انه يرتبط بالأنا انفراديا ومهما يكن فالتواصل الحقيقي بين الأنا والأخر يكون عن طريق الإعجاب بالذات والعمل على تقويتها بإنتاج مشترك مع الغير الذي يمنحها التحفيز والتواصل الأصيل وتجاوز المآسي والكوارث . داخل مجال من الاحترام والتقدير والمحبة .
أثبت الأطروحة التالية: معرفة الذات تتأسس على التواصل مع الغير
طرح المشكلة:إذا كان الإنسان بطبعه كائن اجتماعي كما يقول ابن خلدون، يتأثر ويتفاعل مع بني جنسه،فلا يستطيع أن يعيش منعزلا عن الناس فإن هذا يستلزم أن الآخر أو الغير وجوده ضروري حتى يتمكن الإنسان من إدراك ذاته وقيمة وجوده ،فالشعور بالأنا أو الوعي غير كاف لمعرفة الذات وعليه نطرح السؤال التالي: كيف يمكن لنا إثبات أن معرفة الذات تتأسس على التواصل مع الغير؟
محاولة حل المشكلة:
1/ عرض منطق الأطروحة:يرى بعض الفلاسفة أن إدراك الذات لا يكون إلا من خلال التواصل مع الأنا الآخر باعتبار الإنسان كائن اجتماعي مضطر إلى التواصل مع الغير،بل انه يتأثر بالناس ويؤثرون فيه ويتفاعل معهم ، فالوعي أو الشعور بالأنا غير كاف لمعرفة حقيقة الذات ،وهذا التفاعل الذي يحصل بين الفرد والغير يحبطه أو يشجعه ويشكل دوافعه فيصدر الغير عليه الأحكام ويدفع هذا الفرد إلى التفكير بعمق في نفسه وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف ماكس شيلرالذي يرى أن الإنسان يعيش في جماعة أكثر مما يعي في فرده ذاته ،فالطفل يكون في بداية حياته في حالة اللا قسمة« اللاتمييز »ومع نموه داخل مجتمعه فإنه يدرك هويته الذاتية فالمجتمع هو الذي يكون الوعي الفردي ،وهذا ما يؤكده الفيلسوف الفرنسي إميل دوركايم الذي يقول : «إذا تكلم الضمير فينا فان المجتمع هو الذي يتكلم »،ويرى أن التعاطف والحب هما الطريق المعبر عن التواصل الحقيقي بالغير، لأن المشاركة العاطفية هي عمل قصدي نزوعي يتجه نحو الغير مثل العاطفة التي تربط الأم بالأب عند وفاة ابنهما،ومثل مشاركة الغير أفراحه وأتراحه،ومختلف مظاهر الحب وهكذا يتجسد الإحساس المشترك بين الذات والآخر ،و يذهب الفيلسوف الفرنسي ذو النزعة الوجودية جون بول سارتر أن وجود الآخر شرط ضروري لتكوين الأنا حيث يقولك وجود الآخر شرط لوجودي، و شرط لمعرفتي لنفسي وعلى ذلك يصبح اكتشافي لدواخل اكتشافا للآخر ،وهذا الآخر ليس مجرد موضوع بل أدركه وأعيه كإنسان موجود مثلي في هذا العالم ،والتواصل يتحقق عن طريق الوعي بالمماثلة,
2/ تدعيم الأطروحة بحجج شخصية: وهذا ما يثبته الواقع فالذات الإنسانية ليست منطوية على نفسها بل تتجه نحو الغير،لأن الشعور يتجه دوما نحو خارج ذاته بحثا عن التغير الذاتي،فأي شخص لا وجود لهولا قيمة لوجوده إلا في ظل علاقته مع الغير أين تتحول معرفته لذاته إلى معرفة موضوعية عن طريق التواصل حيث يقول المفكر العربي المعاصر لحبابي: «أن معرفة الذات تكمن في أن يرضى الشخص بذاته كما هو ضمن هذه العلاقة: الأنا كجزء من النحن في العالم»،وإذا كان الشعور هوا لذي يحدد معرفة الذات ،فلماذا لانعي جميع أحوالنا النفسية كزلات القلم والنسيان وفلتات اللسان ،ولماذا يلجأ الناس إلى المحللين النفسانيين؟ وهذا دليل عل أن الإنسان يجهل حقيقة ذاته ويحتاج بالضرورة إلى الآخر في وجوده,,,,,,. توسع
3/نقد خصوم الأطروحة بعد عرض منطقهم: حيث ذهب بعض الفلاسفة أن الوعي هو الذي يحدد معرفة الذات فالإنسان متميز عن الحيوان كونه كائن وواع لأفعاله وما يدور في ذاته من أفكار وعواطف،ويعرف جميع أحواله الشعورية معرفة مباشرة حدسية،وعن طريق الوعي أو الشعور يدرك أنه موجود حيث يقول الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت أن الشعور هو وعي الذات بذاتها وجميع أحوالها ،وهذا ما عبر عنه في الكوجيتو الديكارتي: « أنا أفكر إذن أنا موجود»،فماهية النفس التفكير،وهو دليل وجودها في هذا العالم،وأنها متميزة عن الآخرين،وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي مين دوبيران الذي يرى أن الشعور بالذات سابق عن الشعور بالموضوع حيث يقول : «قبل أي شعور ، لابد من أن الذات وجود بدليل أن الشعور أو الأنا تميز بين الذات الشاعرة والموضوع المشعوربه»،لكن الشعور بالأنا غير كاف بل إن الإنسان يحتاج إلى التواصل مع غيره من اجل تكوين معرفة أكثر عمقا حيث يرى الفيلسوف سبينوزا هو وهم ومغالطة فاعتقاد الناس بحرية تصرفاتهم ظن خاطئ لجهلهم بالأسباب المتحكمة في شعورهم،وهذا ما يؤكد صعوبة التمكن من معرفة ذواتنا على حقيقتها .
حل المشكلة: إن وعيي بذاتي يتوقف على معرفة الغير والتواصل معه ،لأنها قاصرة عن معرفة حقيقتها ،فإنها تحتاج إلى الغير حتى تدرك حقيقتها أكثر ونقائصها ومدى قيمتها في هذا الوجود........... توسع
هل الإنسان مسؤول عن أفعاله في كل الأحوال
طرح المشكلة: من الإشكاليات الفلسفية المعاصرة نجد اشكالية الجزاء ؛ التي لم تتفق حولها النظريات الفلسفية وكان محور الخلاف حول مسالة تبعية الفعل ؛ وإذا كان الجزاء هو الفكرة المترتبة عن المسؤولية فهذا يعني تحمل نتائج الفعل ومن هنا تنوعت الرؤى الفلسفية بين النظرية العقلية والوضعية ؛ بحيث تعتقد الاولى أن الإنسان مسؤول عن أفعاله لوحده والثانية ترى انه مدفوع بحتميات نحو الفعل ومن هنا يواجهنا السؤال الإشكالي التالي اذ اكان الإنسان متمتعا بحرية الاختيار فهل معنى ذلك انه مسؤول عن أفعاله ؟.
محاولة حل المشكلة: الأطروحة الانسان مسؤول عن أفعاله لأنه حر
يرى أنصار الأطروحة أن الإنسان مسؤول عن أفعاله وهذا انطلاقا من انه يتمتع بحرية الاختيار والمفاضلة بين الأشياء وكذا التميز ومن هنا فهو مسؤول عن كل مايصدر عنه من أفعال
ويبرهن أنصار الأطروحة على فكرتهم بحجة أن كل إنسان يتميز بحرية الاختيار لا بل يتمتع بها ومن هذا المنطلق فهو مسؤول عن أفعاله وهذا مايعتقد به أفلاطون الذي يؤكد على أن الناس مسؤولون عن أفعالهم ويتهمون القضاء والقدر والله بريء من تصرفاتهم ومن هنا لا بد من عقابهم اشد العقاب ؛ ونفس التصور يذهب إليه الفيلسوف امانويلكانط الذي يرى أن الإنسان مسؤول عن كل مايصدر عنه من أفعال ويستحق العقاب الصارم وأي فكرة تريد أن تذكر صيغة الأسباب والبواعث فهي باطلة بحيث ما يبعث الإنسان على الفعل إلا انتقاءا له؛ ويستدل امانويلكانط بطريقة العقاب التي كان يحاكم بها المجرمين قديما وهي أن يحضر إلى ساحة تعرف بساحة العقاب بحيث تقرا جرائكم المجرم أمام الجميع على أن يكون يوم عطلة ويجبر الأطفال والنساء على الحضور لمعاينة العملية وبعد تنفيد الحكم وهو الإعدام وقبل أن ينصرف الجميع تقرا الجملة المفيدة وهي كل من تخول له نفسه أن يقوم بنفس الأفعال التي قام بها المجرم يقابل بنفس المشهد الرهيب وهكذا ينصرف الناس خائفين مذعورين من هول ما عاينوه ومن هنا تكون العقوبة قد أدت دورا تربويا وأخلاقيا ؛ وهذا ما أعلن عنه الفيلسوف الفرنسي نيكولا مالبرانش الذي يرى انه من الواجب علينا أن نعاقب المجرم ومن لا يطلب ذلك لا يحب الله ولا العدالة كما يرى الفيلسوف جون بول سارتر أن الإنسان يختار الماهية بنفسه وهو مسؤول عن أفعالهدون أي تأثير خارجي وعليه لابد من العقاب الصارم
نقد الأطروحة: إن أنصار الأطروحة قد أكدوا على فكرة العقاب على أن الإنسان مسؤول عن أفعاله في كل الاحوال ونظرت إليه على انه يتميز بالحرية المطلقة والواقع لا يؤيد ذلك فمن الممكن أن تحيط بالإنسان مجموعة من الحتميات تعيقه في التكيف مع وضعيات كثيرة
نقيض الأطروحة :الإنسان غير مسؤول لأنه ليسا حرا
يرى أنصار الأطروحة أن الإنسان غير مسؤول لوحده عن أفعاله بل يتقاسم المسؤولية مع مجتمعه وذلك لوجود مجموعة من الحتميات المختلفة على مستويات كثيرة فزيولوجية ؛ نفسية ؛ اجتماعية .
ويبرهن أنصار الأطروحة على فكرتهم بحجة أن الإنسان مرتبط بحتميات كثيرة وعلى رأسها الحتمية الفزيولوجية التي تتحكم في تركيبه الفزيولوجي الذي يعبر عن وراثة الجريمة وكان هذا رأي لومبروزو الذي يرى أن الإنسان قد ورث الجريمة عن ذويه انطلاقا مما يلاحظ عليه من صفات توحي بالإجرام ؛ وهذا ما يؤكده بالحجة النفسية العالم النفساني فرويد على أن الإنسان يعاني صراعا نفسيا داخل جهازه النفسي ؛ عن طريق اختلال التوازن الذي يقود إلى الجرائم ومن هنا يكون المجرم مريض نفسيا ؛ لابد من معالجته في النهاية وعليه فهو غير مسؤول لوحده بل هناك أسباب نفسية ضاغطة ؛ ويضيف أنصار الأطروحة فكرة أخرى تتعلق بالجانب الاجتماعي وكان هذا رأي الفيلسوف فيري الذي يرى أن العامل الشخصي لا يؤدي وحده إلى الجريمة إلا إذا ساعده العامل الاجتماعي ومثل ذلك مثل المادة القابلة للذوبان لا تذوب إلا إذا عرضناها إلى الحرارة ؛ وتدني المستوى الثقافي والجهل لدليل على ذلك ومنه هنا تكون الأسباب الاجتماعية هي الدافع إلى الجريمة
وبالتالي المسؤولية جماعية وليست فردية
نقد نقيض الأطروحة: يمكن القول أن أنصار الأطروحة قد نظروا إلى الإنسان بنظرة السجين داخل الحتميات المختلفة والواقع يؤكد أن الإنسان يمتلك حرية الاختيار والانتقاء؛ فهو مسؤول فليس كل من أجرم كان السبب نفسيا واجتماعيا بل قد يعود إلى أسباب أخرى
التركيب : بعد عرض الأطروحتين تبين أن المسؤولية فردية وجماعية نأخذ بالعقاب انطلاقا من استقصاء الدوافع بحذر شديد دون أن ننخدع أمام ظرف مفتعل ؛ أي لا نترك نهمل العقاب مع الاهتمام بالأسباب المؤدية إلى الجريمة .
حل المشكلة: يمكن القول في الختام أن الإنسان مسؤول عن أفعاله مع النظر إلى الأسباب فمهما يكن فيجب أن يسعى الإنسان إلى تحقيق مجتمع فاضل خال من الجريمة ؛وهذا مايو ضح إنسانية الإنسان
هل الحرية مجرد وهم ؟
طرح المشكلة:إن الحرية من الموضوعات الفلسفية الغامضة والشائكة التي بحث فيها العلماء والفلاسفة قديما وحديثا فهي اصطلاحا تجاوز لكل إكراه داخلي أو خارجي فالفعل الحر هو الفعل المختار عن رؤية وتدبر وبعقل هذا من جهة المفهوم أما من جهة أنه مسير في جميع أفعاله والآخر يثبت أنه مخير ويملك الإرادة في أفعاله كلها. فما هي الأدلة التي اعتمدوها وما هي قيمها ؟.
محاولة حل المشكلة:يري جملة من الفلاسفة أن الحرية وهم وخيال من إبداع الإنسان فهو لا يملك القدرة على اختيار أفعاله كلها لأنه مسير فيها فمنهم من نفى الحرية باسم الدين ومنهم من نفاها باسم العلم فالجبرية تؤكد من خلال رائدها "جهم بن صفوان" أن الإنسان مصيره محدد منذ الأزل فهو خاضع لإرادة الله حيث أن الفعل هو فعل الله وليس فعل الإنسان فكل شيء قضاء وقدر فقد اعتمد أصحاب الجبرية على أدلة مفادها أن الأفعال تنسب إلى الإنسان وتضاف إليه مجازا فقط كذلك بالنسبة للظواهر الأخرى فمثلا عندما يقال :"زيد مات"فهذا الأخير لم يمت نفسه وإنما أماته الله سبحانه وتعالى وأكدوا أن الله هو الخالق الفعال لما يريد لا يشبه أحد من خلقه ومن قال أن الإنسان يخلق أفعاله بنفسه فقد كفر واعتمدوا دليل نقلي كقوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)
أما الحتميين أمثال "دور كايم وفريد" فقد اعتمدوا على أدلة علمية لتبرير موقفهم تتمثل في أن الإنسان مائل للظواهر الطبيعية فهو يخضع لنقص الشروط التي تخضع لها بما أن الطبيعة الفيزيائية تخضع للحتمية الفيزيائية فكذلك الإنسان يخضع لها و إثباتهم من الناحية البيولوجية بمعطياتها الوراثية تتحكم في أفعال الإنسان إذا اختلت اختل توازنه وإذا توازنت توازنت أفعاله فهو إذن خاضع لحتمية بيولوجية كما أفادوا بأن الإنسان مقيد بحتمية نفسية فاللاشعور حسب فرويد يتحكم في أفعال الفرد بحيث كل ما يفعله هو خاضع للاشعور . أما دوركايم فيؤكد بأن الفرد من صنع المجتمع فهو لا يستطيع أن يفعل إلا ما يمليه القانون الاجتماعي ولهذا فهو خاضع للحتمية الاجتماعية .
لقد وجهت العديد من الانتقادات لأصحاب هذا الموقف تتمثل في أن فكرة الجبرية دعوة للخمول والكسل وتأكيد بأن الإنسان خاضع بصفة مطلقة للإرادة الأهلية فهو كالريشة في مهب الريح لا يملك القدرة على توجيه أفعاله فإذا كان هذا صحيحا لماذا يرهق الفرد نفسه بالعمل ويجتهد مادام مصيره معلقا ومستقبله محددا فهنا الجبرية نفت غاية الأنبياء والرسل ويوم القيامة كما أسقطت التكليف واستغلت هذه السياسة من طرف حكام بني أمية لتبرير فسادهم وظلمهم أما الحتميون فقد فرقوا بين الإنسان والكائنات الحية الأخرى ينقاد وراء غرائزه وأهوائه فحاشى أن يكون الإنسان كذلك إذ أنه يملك العقل والإرادة وباستطاعته تجاوز كل إكراه داخلي أو خارجي فبواسطة العلم والتقنيات المتطورة يستطيع تكييف الظواهر المحيطة به لصالحه وبذلك يحقق العديد من المنافع الاجتماعية والطبيعية فقد قيل قديما " إذا عرفت استطعت ".
يرى جملة من العلماء أمثال الشهرستاني ـ كانط ـ ديكارت ـ برغسون أن الحرية ليست وهما من صنع الخيال وإنما واقعا حيث أن الإنسان حر في أفعاله ويملك حق الإرادة والاختيار و اعتمدوا في موقفهم أدلة مفادها أن الحرية حالة شعورية ذاتية فالإنسان يعلم أنه حر من أحاسيسه ومشاعره ويملك القدرة على التمييز بين الأفعال الإرادية واللاإرادية فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن وهذا ما أكده الشهرستاني وكما أكد ديكارت أيضا إن الحرية فكرة لا يمكن إنكارها لأنها بديهية لا تحتاج إلى برهان أما برغسون فيرى أن الحرية لا تدرك في علاقاتنا بالغير (الأنا السطحي ) بل تدرك من خلال داخلنا ( الأنا العميق ) وقد قدموا أيضا دليل أخلاقي مفاده أن الحرية قيمة أخلاقية لا يمكن إنكارها أما كانط فيؤكد بأن الحرية مسلمة لا تحتاج لدليل يؤكد الواجب الأخلاقي كما أكدوا بأن عقود الإيجار والبيع لا تبرم إلا على أساس الحرية والدليل ميتافيزيقى مفاده أن الإنسان لا يفعل إلا الأفعال الناقصة والكمال لله وحده إن أصحاب هذا الموقف جعلوا الإنسان منطويا على ذاته لا يشارك الآخرين ولا يشاركونه في الحرية كما نرى أن كانط لم يثبت الحرية وإنما وضعها كشرط للواجب الأخلاقي كما أن الإنسان قد يفقد حريته داخل المجتمع الذي ينتمي إليه فلا يكفي أن نكون
أحرارا إنما علينا تحرير من حولنا فنحن في حقيقة الأمر مكبلون بقيود فالمجتمع الخاضع للاستعمار أفراده مسيرون في أفعالهم ، إذن الحرية لا أساس لها في الواقع .
حل المشكلة:إن الإنسان ليس مسيرا تسييرا مطلقا ولا مخيرا تخييرا مطلقا فحريته محدودة فهو يملك القدرة لتحديد أفعاله لكن قدرة الله عز وحل غالبة على كل أفعال الإنسان كقوله تعالى (( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) . نخلص في النهاية إلى أن الحرية موضوع شائك اختلف فيه الكثير من الفلاسفة في الحقيقة هي بجانب الرأي الثاني كما نادى فريق آخر بالتحرر الذي جعل منه وسيلة للتعبير عن ضروريات أساسية لمعرفة الإنسانية وقيمها السامية التي تؤكد بأن العلم سلاح ذو حدين حيث يقول اكسبيري : "لا حرية إلا تلك التي ترسخ الإنسان طريقا نحو هدف معين "
هل المجرم المسؤول الوحيد عن جرائمه ؟
طرح المشكلة:إن الحديث عن المسؤولية يقودنا إلى الحديث عن فكرة الجزاء فإذا كانت المسؤولية هي تحمل الفرد لنتائج أفعاله فالجزاء هو النتيجة المترتبة عن تحمل المسؤولية إذ لا يمكن أن تستقيم الحياة الاجتماعية إلا بتحديد المسؤوليات ولا فائدة من تحديد المسؤوليات دون تطبيق الجزاء لكن المشكلة التي تواجه عملية تطبيق الجزاء هي مشروعيته بمعنى هل كل إنسان يقوم بفعل يكون وحده المسؤول عنه ؟ أو بمعنى آخر إذا صدر عن الإنسان فعل شر فهل نعتبره مجرما ونحمله وحده نتائج الفعل , أم أن هناك أطرافا أخرى يجب أن تتحمل معه نتائج فعله ؟
محاولة حل المشكلة :
المجرم مسؤول وحده عن جرائمه :
إن الجزاء في نظر فلاسفة الأخلاق هو الثواب والعقاب والجزاء في الأصل هو الفعل المؤيد بقانون كالعقاب الذي يفرض على من ارتكب الجريمة فإذا تعمد شخص إلحاق ضرر بآخر فليس من المعقول ألا نعاقبه بل نجد المبرر الكافي الذي يدعونا لعقابه فالعقاب هنا مشروع وعادل كون الإنسان حر وعاقل وهذا نجده عند أصحاب النزعة العقلية ومنهم " أفلاطون " قديما حيث قال : " إن الله بريء والبشر هم المسؤولون عن اختيارهم الحر " وقال كانطحديثا :"إن الشرير يختار فعله بإرادته بعيدا عن تأثير الأسباب و البواعث فهو بحريته مسؤول " ونجد هذا الموقف في الفكر الفلسفي الإسلامي عند المعتزلة الذين يقولون : " إن الإنسان يخلق أفعاله بحرية لأنه بعقله يميز بين الخير والشر فهو مخير لا مجبر فهو مكلف مسؤول " والغرض من العقاب في نظر هذا الاتجاه هو مجازاة المجرم بحسب جريمته .
مناقشة : ولكن مهما كانت حرية الإنسان وقدرته العقلية فإنه لا يمكن إهمال طبعه وظروفه فالإنسان خاضع لحتميات تجعل اختياره محدودا .
المجرم لا يعتبر وحده المسؤول عن الجريمة :
إن الدراسة الحديثة في مجال علم النفس وعلم الاجتماع أثرت كثيرا على المشرعين وغيرت نظرتهم إلى العقوبة والغاية منها وإلى المجرم و أساليب التعامل معه مما أدى بالمجتمع إلى الانتقال من التفكير في عقاب المجرم إلى التفكير في علاجه وإعادة إدماجه وتكييفه مع الجماعة وهو ما نجده عند أصحاب النزعة الوضعية ومنهم " لومبروزو" أحد ممثلي المدرسة الإيطالية في علم الإجرام (1835-1909) الذي يرى أن المجرم يولد مزودا باستعداد طبيعي للإجرام وكذا " فيري " 1856-1922 عالم إيطالي في الإجرام يرى أن المجرم لا يوجد مجرما ولكن تصنعه ظروف بيئته الاجتماعية الفاسدة فالجريمة نتيجة حتمية لمجموعة من المؤثرات لابد عند توافرها من وقوع الفعل الإجرامي كالبطالة والسرقة . كما نجد هذا الموقف في الفكر الفلسفي الإسلامي عند الجبرية حيث يرون " إن الإنسان ليس علة أفعاله فهو مجبر على فعل الفعل بعلة ما فلا اختيار لإرادة الإنسان أمام إرادة الله المطلقة " وهؤلاء عموما يركزون على الجزاء الإصلاحي .
مناقشة : لكن الأخذ بهذا الموقف يلغي المسؤولية والجزاء لأن التسامح مع المجرم يزيد في عدد الإجرام وهذا يجعلنا نتساءل على من تقع التبعة وهل نهمل الضحية ؟
المجرم مسؤول عن جرائمه مع مراعاة مختلف ظروفه ودوافعه للإجرام :
في كل من هذين الاتجاهين نجد بعض النقائص فالاتجاه العقلي يهتم بالجريمة ويهمل المجرم وكأن العقوبة غاية في ذاتها . كما أن الاتجاه الوضعي يهتم بالمجرم ويهمل فضاعة الجريمة وكأن المجرم لا ذنب له .
إن العقاب الانتقامي يجعل من المجرم عدوا لدودا لمجتمعه كما أن الجزاء الإصلاحي قد يشجع المجرم على الإجرام وعليه فالمجرم يجب أن ينال العقاب لأنه مسؤول عن جرمه لكن درجة العقوبة تتحدد تبعا للظروف والدوافع التي دفعته للإجرام .
حل المشكلة:بناء على ما سبق نستنتج أن القول بالعقاب أول القول بالإصلاح فيه اعتراف ضمني بمدى مسؤولية المجرم عن جريمته غير أن تحديد مستوى المسؤولية ودرجة العقوبة يكون حسب شدة الاختيار وفضاعة الجريمة .
وعليه فإن وصمة الإجرام تبقى عالقة بالمجرم مهما كانت الدوافع وقد جاء في القرآن الكريم (ولكم في القصاص حياة(
هل الحرية مجرد حالة شعورية ام هى ممارسة عملية فى الحياة اليومية اساسها التحرر؟
طرح المشكلة:الحرية هي قدرة الانسان على تجاوزاكراهاته الداخلية والخارجية، اختلف الفلاسفة فى كيفية اثبات وجودها متسائلين هل الشعوربالحرية يكفى لإثبات وجودها أم أن الحرية فعل وممارسة يومية؟
محاولة حل المشكلة:
الجزء الأول
الحرية مجرد حالة شعورية، أي هي مسألة نظرية تدرك بالحدس النفسي المباشر،قال بهذا الموقف:
• المعتزلة: الحرية عند المعتزلة حالة شعورية، وشهادة الشعوردليل كافلإثبات وجودها، فالإنسان برايهم يحس من نفسه وقوع الفعل فيه اذا اراد الحركة تحرك واذا اراد السكون سكن، فهو بذلك يعتبر حرا.
• الفرنسي جاك بوسويهله مؤلفات في الالهيات والفلسفة والتاريخ يقول:))كلما بحثت في اعماق نفسى عن السبب الذى يدفعني الى الفعل، لم اجد فيها شيئا غير حريتي.)) ويقول أيضا: (( ان الانسان العاقل لايحتاج الى البرهان على حرية اختياره لأنه يشعر بها في داخله.)) وهذا معناه ان الحرية شعور باطني.
• ديكارت: يرى ان الحرية حالة يؤكد وجودها الذات العاقلة فيقول ان حريتنا لايمكن البرهنة عليها الا ببرهان واحد هو تجربتنا الخاصة، ويقول في موضع اخر: (( ان الحرية تدرك بلا برهان.)) وبذلك يعتبرها بديهية نفسية.
• كما يقول الفرنسي آلان(( الحرية معطى مباشر للشعور))
مناقشة:
• لايمكن لأحد أن ينكرالشعوربالحرية لكن شهادة الشعورليس دليلا كافيا على تمتع الانسان بها فالإنسان يتمتع بالحرية اذا تجسدت ارادته في سلوك عمليحقيقي، اما اذا بقيت الحرية كإحساس تتجول في ساحة الشعور ولم تتجسد في الواقع فهي شعور مخادع ووهم كاذب.
• كما ركز أنصار هذا الاتجاه على العامل النفسيالداخليفي اثبات وجود الحرية واهملوا بدورهم العوامل الموضوعية الخارجية الاخرى التي تحول دون وجودها.
• ويقول سبينوزا في رده على مغالطة الشعور بالحرية)): أن التجربة ذاتها لاالعقل وحده تدلنا بوضوح على ان الناس يظنون انفسهم احرارا لمجرد كونهم واعين بسلوكهم الخاص، دون ان يعلموا شيئا عن الاسباب المتحكمة فيهم، كما تدلنا على ان اوامر العقل ليست الا الشهوات ذاتها.((
الجزء الثاني (( الحرية ممارسة عملية في حياتنا اليومية اساسها التحرر((
يرى بعض الفلاسفة ان الحرية ليست حالة شعورية بل هي غاية يطمح الانسان الى بلوغها باستمرار ويكون ذلك ممكنا من خلال فعل التحرر، فالتحررهوالسبيل الوحيد الى ادراكها، ولكن التحرر يقتضى وسائلا منها الوعى أي العلم بالحتميات المختلفة والعمل الفعلي على تجاوزها او العيش وفقها وتسخيرها لخدمته، وهو ما اكدت عليه الشخصانية باعتبارها فلسفة تحرر.
• الوليد ابن رشد يرى ان الانسان حر في افعاله ولكن حريته مشروطة بمدى علمه بالأسباب او القوانين التي تحيط به من الخارج.
• وقد أيد هذا الموقف كارل ماركس حين قال(( الحرية هي وعى بالضرورة.((والضروراتهي نفسها الاكراهات أوالحتميات النفسية والاجتماعية والطبيعية، أي ان الحرية معركة يومية اساس وسائلها العلم والعمل، ولذلك لاينتظر الانسان حرية في هذه الحتميات في عالم يخلو من العلم والعمل.
• فريديريك انجلزيرى ان حرية الانسان تزايدت بتزايد معارفه العلمية واختراعاته التقنية فيقول: ((فالإنسان لم يكن يتميز عن الحيوان، فان سيطرته على نفسه وعلى الطبيعة لم تكن بعد قد تحققت وبالتالي فان حظه من الحرية لم يكن يزيد عن حظ الحيوان منها، ولكن من المؤكد ان كل خطوة خطاها فى سبيل الحضارة لم تكن سوى مرحلة من مراحل تحرره.((
• يقول سبينوزا((كلما ازداد الانسان علما ازداد قدرة على توجيه سلوكه ومن ثم تحرير نفسه((
مناقشة
• ان اطروحة التحرر وربطها بالمعرفة والعمل تبدو نسبية لأنهامتعلقة بالإنسان .
• كما ان اطروحة التحررترسم حدودا لهذا التحرر الذي اذا تجاوز حدود العقل او الدين انقلب الى فوضى.
الجزء الثالث((التركيب((
ان طرح مسألة الحرية بين الشعور والممارسة طرح يقتضي تناولها نقديا، فيصبح الشعور مسلمة ضرورية لحدوث عمل التحرر باعتبار الشعور ادراك وتمييز ومعرفة، وفي غياب الشعور ودلالاته كمعرفة فإنه لاحديث عن التحرر، هذا من جهة لكن من جهة اخرى فأن الحرية لا تتحقق الا عندما ينتقل الانسان من مستوى الشعور الى مستوى الممارسة العملية لها في واقعه العام، فتنقلب الحرية كغاية الى تحرر كوسيلة، فينال الانسان الحرية التي يستحقها او التي هو اهل لها وفي هذا السياق قال غوسدروف((ينال المرء دائما الحرية التي هو اهل لها والتي هو قادر عليها.((
حل المشكلةالحرية -من خلال ما سبق عرضه- هي مسالة فلسفية قديمة تناولها الفلاسفة وفق طرحين احدهما كلاسيكي ميتافيزيقي نظري مجرد يجتهد في اثباتها ونفيها من الناحية النظرية، وطرح آخر حديث وواقعي يطرحها من الناحية العملية ، فالمحدثون انتقلوا من الحديث عن الحرية الى الحديث عن التحرر، واعتبروا ان تحقيق الحرية بالتحرر عمليا اهم واولى من البرهنة عليها نظريا، لكن الحقيقة التي يجب الالتزام بها هي ان الحرية يجب ان تنطلق من الشعور من جهة اولى ويجب ان تتجلى في الممارسة من جهة ثانية.ولا يمكن تحقيقها بطرف دون الآخر.
قيل إن الحتمية أساس الحرية أثبت بالبرهان صحة هذه الأطروحة ؟
طرح الإشكاليةيقول أحد الفلاسفة " أعطيني حلا لمشكلة الحرية أعطيك حلا لكل المشاكل الفلسفية " إذا فربما هذه المقولة أكبر دليل يدفعنا إلى القول بأن الحرية من أعقد و أقدم المشكلات الفلسفية فهي لها صلة مباشرة بما وراء الطبيعة ولقد شاع بين بعض الفلاسفة من أنصار الحتمية أنه لا مجال للحديث عن الحرية في عالم تحكمه مجموعة من الحتميات الصارمة إلا أن هناك من يعتقد عكس ذلك وهم فريق أنصار التحرر الذين يروا أن التسليم بوجود الحتميات و إدراكها شرط لممارسة الحرية فإلى أي مدى يمكن الدفاع عن هذه الأطروحة ؟ وهل يمكن إثباتها بحجج ؟ وبالتالي الأخذ برأي مناصريها ؟
محاولة حل الإشكالية
عرض منطق الأطروحة : هذا الموقف الفلسفي يرفض الطرح الميتافيزيقي لمشكلة الحرية باعتبارها مشكلة الإنسان الذي يعيش في الواقع ويواجه جملة من الحتميات . وأول من ابتدأ الطرح الواقعي لها الفيلسوف المسلم "ابن رشد " ونزع التعارض القائم بين الحرية والحتمية ؛ حيث قدم وجهة نظر جديرة بالاهتمام . فالإنسان عنده حر حرية محدودة في حدود قدرته وعلمه ووعيه حيث يقول في هذا الصدد " ... أن الله تبارك و تعالى قد خلق لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد . لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله من خارج وزوال العوائق عنها ، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعا ..." ونفس الموقف نجده يتكرر مع الفيلسوف الفرنسي بول فولكي عندما يقر أن الحرية والحتمية في واقع الأمر متكاملتان والتحرر حسبه يقتضي معرفة القيود و الموانع و الحتميات التي تعترضه . وقد اعتمد هذا الموقف على المسلمة التالية : أن الحتمية والحرية مفهومان غير متناقضين – حسب الطرح الميتافيزيقي - وإنما الحتمية شرط ضروري لقيام الحرية ، أما الحجج المعتمدة في هذا الطرح : نذكر منها الحجة الواقعية التي استخدمها بول فولكي في إثبات علاقة التكامل بين الحتمية والحرية بل رأى أنه انعدام الحتمية يؤدي إلى انعدام الحرية ؛ فعدم وجود قوانين تنظم السلوك الإنساني وتوجهه يؤدي إلى الفوضى في السلوك يفقد من خلالها الإنسان حريته وقد قوى حجته بمثال رائع حينما قال " إنه من السهل علينا أن نذهب حيث شئنا بسيارة لأن حركتها مضبوطة ومدروسة بدقة سلفا ، ولكنه من الصعب أن نستعمل الحصان لأن حركاته كثيرا ما تكون عفوية . وهناك حجة تاريخية تؤكد هذا الطرح : و هو أن الإنسان عندما تعرف كيف يقرأ مجهولات الطبيعة عن طريق العلوم الطبيعية خاصة استطاع بها الكائن البشري أن يتحرر من مجموعة من القيود هذا الذي جعل مونيي يقول : " إن كل حتمية جديدة يكتشفها العالم تعد نوطة تضاف إلى سلم أنغام حريتنا " .
نقد خصوم الأطروحة : يرى هذا الاتجاه أنه من التناقض الجمع بين الحرية والحتمية في آن واحد . فحسب هذا الموقف إما أن تكون الحرية كمفهوم مطلق موجودة [من دون أي إكراه خارجي أو داخلي وبما الإنسان كائن عقلاني كما يؤكد أهل إثبات الحرية بدلالة شهادة الشعور تارة حسب "ديكارت " " مين يبيران " و برغسون حيث يعتبرها هذا الأخير إحدى مسلمات الشعور والتي ندركها بالحدس ، إنها حسبه ذلك الفعل الذي يتبع من الديمومة أو الأنا العميق أما سارتر أن الحرية هي جوهر الوجود الإنساني وتارة أخرى يعتمد هذا الاتجاه باسم الحجة الأخلاقية بدعوى مشروعية التكليف ففريق المعتزلة يرى أنه يطلب من المكلف إما الترك أو الفعل و يؤكد على نفس الموقف الفيلسوف الألماني " إيمانويل كانط "حيث يقول " إذا كان يجب عليك فإنك تستطيع " بالإضافة إلى ذلك الحجة الاجتماعية والحجة الميتافيزيقية التي تثبت وجود الحرية ] وإما أن تكون الحرية غير موجودة بمفهوم مطلق أي توجد الحتمية التي تنفيها و يمثل هذه الفكرة " أهل النفي " وهم أنصار الميتافيزيقا الإسلامية ( يمثلها جهم بن صفوان المتوفي سنة 128 ه الذي يرى أن الإنسان مسير بإرادة الله ) في العصور الوسطى وامتداداتها إلى العصر الحديث مع موقف سبينوزا (1632 - 1677) الذي يقول بموقف الضرورة الإلهية. وكذلك نجد أنصار النزعة العلمية الحديثة الذين يقرون بأن الإنسان محفوف بمجموعة من الحتميات تمنعه أن يكون حرا حرية مطلقة وقد عددوها بين حتميات ؛ فيزيائية ( أفعال وأفكار الإنسان تنطبق عليها قوانين الحتمية مثل انطباقها على الظواهر الفيزيائية والكيميائية ) و حتمية بيولوجية ( يرتبط سلوك الإنسان بمكوناته البيولوجية التي تفرض عليه السلوكات التي يفعلها لهذا فهو يتصرف إلا في حدود هذه المكونات يقو العالم الإيطالي لومبرزو " أن المجرمين ليسوا مجرمين بإرادتهم وإنما الطبيعة البيولوجية هي التي أجبرتهم على ذلك " ) وحتمية نفسية ( ترى أن السلوك الإنساني مرتبط بالمجريات النفسية تأتي إما في شكل منبهات طبيعية واصطناعية حسب واطسن أو تأتي على شكل مكبوتات لاشعورية يستطاع أن يتنبأ بها حسب فرويد و في كلتا الموقفين الإنسان هو محتم أن يعمل وفق هذه الضغوطات كلها وهذا يأخذنا إلى نوع أخير من الحتميات وهو الحتمية الاجتماعية ( ترى أن أفعال الإنسان الفردية إذا لم تلتزم بقواعد المجتمع التي تسير حياته مهما بلغت طموحاته فلا يجب على الإنسان أن يتجاوزها مثل ما يؤكد عليها دوركايم ) وبعد أن عرضنا كل موقف الخصوم ورغم حججه الدامغة نجد أنه يتعرض إلى عدة انتقادات نكرها فيما يلي :
- نفي الحرية بحجة وجود الحتميات الداخلية و الخارجية ، دعوة إلى السلبية والخضوع والاستسلام وهذا الذي كان حاصلا فعلا في العالمين سواء الإسلامي في أواخر سقوط نهضته عندما لم يستمع لأفكار ابن رشد وانصاع لفكرة الحتمية ، أما العالم الغربي فقد نام طيلة العصور الوسطى بفكرة الحتمية المسيحية التي شللت عقول وجهود الإنسان الغربي .
- الإنسان يملك قوى كالعقل و الإرادة و الشعور تمكنه من إدراك الحتميات وتسخيرها لخدمة مصالحه
- الحرية ليست مشكلة للتأمل الميتافيزيقي بقدر ما هي مشكلة الإنسان وسلاحه لمواجهة كل أشكال الضغط .فعلى الفلسفة أن تواكب طموحات الإنسان لا أن تسكنه في معراج الأحلام الوهمية البعيدة عن التصور ولو تجسد للحظة وهم الحرية المطلقة.
- و ابرز من جسد الفعل النقدي للطرح الميتافيزيقي الفيلسوف كارل ماركس ( 1811 – 1883 ) الذي فضل تغيير العالم بدعوته إلى التحرر أحسن من تفسير العالم كما تعكف الفلسفة على فعله الآن . ولذلك أدرج التيار التقليدي الذي يطرح الحرية طرحا ميتافيزيقيا ضمن التيارات الرجعية الرافضة للتقدم الأمر الذي ساعد على تأسيس فكرا جديدا يمثله التيار التقدمي التنموي في مواجهة الثابت والستاتيكي .
الدفاع عن الأطروحة بحجج شخصية شكلا ومضمونا :
إن الأطروحة القائلة بأن الحتمية أساس الحرية نستطيع الدفاع عنها و إثباتها بحجج و أدلة جديدة تتمثل فيما يلي :
أما الحجة الأولى تقول أنه كل دعوة إلى ممارسة الحرية خارج إطار القوانين دعوة إلى الفوضى و التمرد واللامبالاة فلو تركت الأجرام السماوية من دون نظام وقوانين لاختلطت وتصادمت يبعضها البعض ونفس المقياس نقيس به الإنسان فبقدر بحثه عن الحرية بقدر حاجته إلى قوانين تنظم حياته فها هانا حقا سيحصل التوازن لا محالة . أما الحجة الثانية فتقول أن الكائن البشري يسري في طريق تحرر كلما بذل من جهد عن طريق العمل مثل ما أكده الفيلسوف هيجل واعتبره منبع للحرية كما بينه في جدليته الشهيرة " جدلية السيد والعبد " حيث تحول العبد بفضل العمل إلى سيد على الطبيعة و سيد سيده ، أما السيد فهو عبد للطبيعة وعبد لعبده لارتباطه بعبده في تلبية حاجياته . أما الحجة الثالثة قائمة على دور العلم في كشف القوانين التي تعتبر قيود تنتظر الفك نحو تحرر الإنسان منها . فقد سجل الإنسان حسب الاستقراءات التاريخية قفزات هائلة في حلقات الانتصار على الطبيعة وظواهرها ( الفيضانات ، البراكين ، الأمراض ...) أنظروا معي في المقابل (أنشئت السدود ، أخليت المناطق البركانية ، اكتشفت كل أنواع المضادات ضد أفتك الأمراض مثل داء الكلب كان يشكل حتمية مخيفة على الإنسانية في فترة من الفترات إلى أن جاءت مضادات باستور وحررت الإنسان من قيد الموت المؤكد...) و نفس الحال يتكرر كلما اشتدت الحمية خناقا على الإنسان جاء العلم ليحل ويطلق سراح الإنسان من خوفه وحيرته . كما أننا يجب أن ننتبه أن إنسان اليوم صار أكثر حرية من إنسان الماضي لأنه أكثر اكتشافا للحتميات فبفضل قوانين الأثير أصبح العالم عبارة عن قرية صغيرة على حد قول عالم الاجتماع الكندي ماك لوهان وصولا إلى فضاء الانترنت و إلى كل أنواع التقدم الحاصل إلى حد كتابة هذه المقالة ، ضف إلى ما توصل إليه الإنسان في معرفة القوانين النفسية التي مكنت الإنسان من التحرر من نقائص الطبع ومختلف الميول والرغبات والعقد النفسية المختلفة ، أما في الجانب الاجتماعي فلقد استطاع علماء الاجتماع أن يحصوا الظواهر التي تؤذي المجتمعات الإنسانية فقاموا بتقليص كل المشاكل التي تهدد انهياراتها مثال حي أنظر سياسة تعامل المجتمعات الغربية مع ظاهرة التدخين أو ظاهرة المخدرات من أجل تقليص أعدادهم وتضمن السلامة الكافية لراسمي مستقبلها . وقس على ذلك كل الممارسات السياسية و الاقتصادية في ظل عملية التأثر والتأثير بين الفرد ومجتمعه في مسائل الالتزام بالقوانين والشعور بالتكليف والمسؤولية وفي نفس الوقت المطالبة بكل أنواع الحقوق و في جميع المجالات .
حل الإشكالية :
وبعد أن صلنا وجلنا في غمار هذه الأطروحة نؤكد على مشروعية الدفاع و الإثبات لأنه يظهر لنا أن القول بأن الحتمية أساس الحرية أمر أكده العلم وأثبت تاريخ العلوم و الاكتشافات و كل الاختراعات ذلك ومنه نخلص إلى أنه كلما زادت وتطورت معارف الإنسان كلما اتسعت دائرة الحرية . وعليه نكثر من تكرار قول لا بد من معرفة الحتميات و القوانين شرط لممارسة الحرية و التأكيد على الطابع العملي لمشكلة الحرية لا يستبعد الجانب الفكري الذي يتمثل في الوعي بالأهداف و الغايات و الأبعاد لفعل التحرر . فنحن نعيش في وقتنا الحاضر لحظة رعب من إفلونزا الخنازير جعل من منظمة الصحة العالمية أن تدق ناقوس الخطر بل جعلت المرض في الدرجة الخامسة لكننا متأكدين أن العلم لن يقبع متفرجا أمام هذا المرض لأن الإنسان مرتبط دائما بآية قرآنية "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " وهي كونية بالنسبة لأي إنسان
للمزيد من المواضيع المتعلقة بالتحضير لشهادة الباكالوريا 2016
للمزيد من المواضيع المتعلقة بالتحضير لشهادة الباكالوريا 2016
قم بزيارة هذه الصفحة