دراسة وتحليل قصيدة الطين.قـصـيـدة  إيليا أبو ماضي   






دراسة وتحليل قصيدة الطين.قـصـيـدة  إيليا أبو ماضي   


  إيليا أبو ماضي ( 1890 - 1957)

 شاعر عربي لبناني يعتبر من أهم شعراء المهجر في أوائل القرن العشرين. رحل إيليا إلى مصر عام 1902 وعمل فيها ونشر أوائل قصائده .

 ثم هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1912. شارك في تأسيس الرابطة القلمية في الولايات المتحدة الأمريكية مع جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. 

يعتبر إيليا من الشعراء المهجريين الذين تفرغوا للأدب والصحافة، ويلاحظ غلبة الاتجاه الإنساني على سائر أشعاره، ولاسيما الشعر الذي قاله في ظل الرابطة القلمية وتأثر فيه بمدرسة جبران.  

مدرسة أدب المهجر   

   يطلق أدب المهجر على الأدب الذي أنشأه العرب الذين هاجروا من بلاد الشام إلى أمريكا الشمالية والجنوبية، وكونوا جاليات عربية، وروابط أدبية أخرجت صحفا ومجلات تهتم بشؤونهم وأدبهم.

 ومن  أبرز شعرائهم وكتابهم:

 جبران خليل جبران، ميخائيل ماضي نعيمة، إيليا أبو ماضي ...  ومن خصائص أدب المهجر

 أولاً :

 في  المضمون

 1.  النزعة الإنسانية:  تمثلت نظرة أدباء المهجر إلى الشعر في أنه تعبير عن موقف إنساني وأن له رسالة سامية ينقلها الشاعر إلى الناس، فيهذب نوازعهم الشريرة ويستثير فيهم دوافع الحق والخير والجمال.  

2. المشاركة الوجدانية: غلب على شعراء هذه المدرسة استبطان الشاعر لنفسه، وتعمقه في فهم أسرارها وخفاياها وانعكاس هذا الاستبطان النفسي في مشاركة وجدانية للناس يضفي فيها الشاعر تجاربه ونوازعهم وخواطره ويشاركهم في انفعالاته.

  3. النزعة الروحية: تظهر في تأملاتهم في الكون وأسراره واستشرافهم إلى الآفاق الروحية و إلى الله يتضرعون إليه بالشكوى، ويلتمسون منه النجاة من خضم الحياة المادية الجارفة وشرورها.  

4. الاتجاه إلى الطبيعة: اتجه شعراء المهجر إلى الطبيعة يجدون فيها ملاذاً من هجير الحياة، وصوراً لما تجيش به نفوسهم من أحاسيس، واندمجوا فيها فأضفوا عليها الحياة حتى صارت عناصر حية في تجاربهم الشعرية، تتفاعل معهم و يتفاعلون معها.   

6. الحنين إلى العالم العربي والمشاركة في أحداثه: كان طبيعياً أن تظهر هذه الترعة في شعرهم لبعدهم عن أوطانهم وإحساسهم بما تعاني من آلام وتخلف اجتماعي، ورغبتهم في أن تنهض هذه الأوطان، وتساير ركب التقدم الحضاري.

 ثانياً : في الشكل والأداء 

1. تأكيد الوحدة الموضوعية و البنائية للقصيدة.

 2. الأداء النفسي للمعاني التي تجول بخاطر الشاعر بحيث تكون التجربة الشعورية الذاتية،      لا الموضوع الخارجي هي نقطة الانطلاق إلى الإبداع الشعري. 

3. اللغة وسيلة للأداء الشعري وليست غايةً في ذاتها.

 4. الإكثار من استخدام الشكل القصصي في القصيدة.

 5. التصرف في نظام الوزن العروضي التقليدي.

 6. إيثار اللغة الحية النابضة والأسلوب السلس و التراكيب الهادئة البعيدة عن الصخب   

الـقـصـيــدة 


 نسي الطين ساعة أنه طين

 حقير فصال تيها و عربد

 و كسا الخزّ جسمه فتباهى 

و حوى المال كيسه فتمرّد 

يا أخي لا تمل بوجهك عنّي 

 ما أنا فحمة و لا أنت فرقد 

أيّها المزدهي . إذا مسّك السقم

 ألا تشتكي ؟ ألا تتنهد ؟ 

و إذا راعك الحبيب بهجر 

ودعتك الذكرى ألا تتوحّد ؟

 أنت مثلي يبش وجهك للنعمى

 و في حالة المصيبة يكمد 

أدموعي خلّ و دمعك شهد ؟

 و بكائي ذلّ و نوحك سؤدد ؟ 

وابتسامتي السراب لا ريّ فيه ؟

 و ابتسامتك اللآلي الخرّد ؟ 

فلك واحد يظلّ كلينا

 حار طرفي به و طرفك أرمد 

قمر واحد يطلّ علينا

 و على الكوخ و البناء الموطّد

 إن يكن مشرقا لعينيك إنّي

 لا أراه من كوّة الكوخ أسود

 ألنجوم الني تراها أراها 

حين تخفي و عندما تتوقّد 

لست أدنى على غناك إليها 

و أنا مع خصاصتي لست أبعد 

أنت مثلي من الثرى و إليه

 فلماذا ، يا صاحبي ، التيه و الصّد 

كنت طفلا إذ كنت طفلا و تغدو 

حين أغدو شيخا كبيرا أدرد 

لست أدري من أين جئت ، و لا ما 

كنت ، أو ما أكون ، يا صاح ، في غد

 أفتدري ؟ إذن فخبّر و إلاّ

 فلماذا تظنّ أنّك أوحد ؟ 

ألك القصر دونه الحرس الشا كي 

و من حوله الجدار المشيّد 

فامنع اللّيل أن يمدّ رواقا 

فوقه ، و الضباب أن يتلبّد 

وانظر النور كيف يدخل لا 

يطلب أذنا ، فما له ليس يطرد ؟ 

مرقد واحد نصيبك منه 

أفتدري كم فيك للذرّ مرقد ؟

 ذدتني عنه ، و العواصف تعدو

 في طلابي ، و الجوّ أقتم أربد 

بينما الكلب واجد فيه مأوى 

و طعاما ، و الهرّ كالكلب يرفد

 فسمعت الحياة تضحك منّي 

أترجى ، و منك تأبى و تجحد 

ألك الروضة الجميلة فيها 

الماء و الطير و الأزاهر و النّد ؟ 

فازجر الريح أن تهزّ و تلوي 

شجر الروض – إنّه يتأوّد

 و الجم الماء في الغدير و مره 

لا يصفق إلاّ و أنت بمشهد 

إنّ طير الأراك ليس يبالي

 أنت أصغيت أم أنا إن غرّد

 و الأزاهير ليس تسخر من فقري 

و لا فيك للغنى تتودّد 

ألك النهر ؟ إنّه للنسيم 

الرطب درب و للعصافير مورد 

و هو للشهب تستحمّ به 

في الصيف ليلا كأنّها تتبرّد

 لا يكن للخصام قلبك مأوى

 إنّ قلبي للحبّ أصبح معبد 

أنا أولى بالحب منك و أحرى

 من كساء يبلى و مال ينفد.  


تحليل القصيدة       

     نحن أمام شاعر كبير من شعراء المهجر ، نبغ فيهم و طار ذكره في العالم الجديد و إذا بلغة الضاد على شفتيه تكتسي رداءها الرومانسي غالباً و رداءها الفلسفي التأملي في قصائد معروفة من أهمها الطين ، الطلاسم ، التينة الحمقاء ، الحجر الصغير ، في رقة تستهوي القلوب و نعومة تسحر  الألباب .  عند  الشاعر إليا أبو ماضي  ينعطف الشعر العربي و يتخذ مذاقاً خاصاً ، و القصيدة التي بين أيدينا من ديوان الجداول تحمل معظم خصائص شعره فضلاً على أنها من أطول القصائد المهجرية نفسياً ، و أشهرها بين دارسي الأدب المهجري و في شعرنا العربي . 

   2 . جولة في القصيدة :    القصيدة في جملها تدور حول دعوة المتكبرين للتواضع من خلال :    

      أ ــ تطاول و تمرد : يبدأ الشاعر الأبيات من منبت الإنسان ( الحقير ) فهو طين مهين و لكته ينسى وضاعة منبته ، فإذا هو متجبر معربد متكبر يتباهى بلبس الحرير و كثرة الأموال . 

هـ ــ مفارقات غريبة : و يستمر الشاعر في إقامة الحجة على الإنسان المتكبر فيثير مجموعة من المفارقات التي تدعو إلى العجب ، تذود عن قصرك بينما الكلب يجد فيه مأوى و طعاماً و يرقد  

 ب ــ تساؤل و توبيخ : ثم يمضي الشاعر بمجموعة من الحقائق و التساؤلات التي تذكّر الإنسان بأصله و تخفف من حدة غروره مستعيناً بأمثلة حية من مفردات الطبيعة و متكئاً بين الفحمة و الفرقد ، و الخل و الشهد ، و السراب و الآلي ، الكوخ و البناء المطور ، الإشراق و الظلمة ، الطفولة و الشيخوخة ......... الخ .   ج ــ تعجيز و استحالة : و من خلال التساؤلات التي يثيرها أبو ماضي يذكّره بعجزه من خلال مجموعة من الأوامر .. ألك القصر .. فامنع الليل .... ، فازجر الريح ... و الجم الماء ..... الخ ، هذه الأوامر التي تخفف من غلواء هذا الذي يصول تيهاً و يعربد. 

 د ــ نظرة الطبيعة العادلة :  ولكي يعطف الشاعر الإنسان إلى الحقيقة و يدله إلى الصواب و يضرب له أمثلة من مفردات الطبيعة في نظرتها العادلة إلى الخلق و الأشياء و التعامل دون تحيز أو محاباة فالقمر الذي يطل على الغني و الفقير واحد ، و النجوم التي يراها الغني لا تحتجب عن الفقير ، و التطور من الطفولة إلى الشيخوخة يلف الفقير و الغني ، و طير الأراك يغني للجميع فيه  ، تمنعني من رياضك و حدائقك ، بينما تجد العصافير فيه مسرحاً لها . 

و ــ  دعوة للحب و التسامح : و يدعو الشاعر في نهاية الأبيات الإنسان إلى الحب و التسامح و البعد عن الخصام و القطيعة .    

  (3) الأفكار :

 أ ــ أفكار إيليا أبو ماضي محطة من محطات التأمل الإنساني تستقي مضمونها من خصائص الكون و تجربته  الإنسانية و خبراته الواسعة و ثقافته المتنوعة و نظرته الذاتية ، و من مؤثرات دينية . 

ب ــ أفكار الشاعر في قصيدة الطين متأثرة بالأفكار الرومانسية التي ترى و تتأمل و تتملى بحر الطبيعة  ينتقل بصره بين القمر المطل المشرق و النجوم المتوقدة و الليل الذي يحد روافده و الثور المنساب الذي لا يطلب الأذن في الدخول و العواصف التي تعدو و الروضة  الجميلة و الريح التي تهز شجر الروض و الغدير الذي يصفق و طير الأراك و النهر صديق النسيم و الشهب والعصافير ..... الخ .

 ج ــ و أفكار إيليا أبو ماضي تمثل عمق الشاعر فهو يسوق الأدلة العقلية و الوجدانية فالمتكبر إنسان غير سوي و يجول و يعربد ناسياً أصل الطين المهين و يقيم الشاعر حجة على المتكبر فهو ليس فحماً و الآخرون فحم و دموعه ليست من شهد و دموع الآخرين من الخل ... الخ ، ثم يسوق أمثلة من الطبيعة تشهد على المساواة بأدلة تمتزج فيها الحقائق بالوجدان ، و بذلك تتعانق الأدلة الوجدانية المستخدمة من عاطفة الشاعر مع الأدلة العقلية المستخدمة من ثقافته في التأكيد على فكرة و إبرازها لصبورة منطقية . 

 د ــ و أفكار الشاعر متأثرة بالبعد المهجري و النزعة الإنسانية ، فالقصيدة تمثل بعداً إنسانياً واسعاً فهو يعالج آفة كبيرة من أفات المجتمع و أمراضه ، فآفة التكبر و ال   من أشد ما يبتلى به الإنسان ثم يقترح علاجها بالدعوة إلى الحب ولا يكن للخصام في قلبك مأوى  ( إن قلبي للحب أصبح معبد ) . 

هـ ــ و أفكار الشاعر جديدة مبتكرة متأثراً بالهجرة إلى العالم الجديد و الاطلاع على الآداب الغربية و قراءته في الأدب الغربي ، فخرج من ذلك بشخصية جديدة كان لها دورها الكبير في مسيرة الأدب العربي .

  (4) العاطفة : أ عاطفة الشاعر في النص من العواطف السامية التي تريد أن ترتفع بالإنسان من الغرور و التمرد و الكبرياء إلى حب الناس و تقديرهم .

 ب ــ عاطفة الشاعر إنسانية واسعة تحرره من قيود المادة إلى آفات رحبة و مشاعر نبيلة و دعوة إلى المساواة و حث على التواضع و نبذ الكبرياء و الترفع على الغرور و الاستعلاء .

  ج ــ عاطفة الشاعر صادقة في التعبير عن إحساسه بالسخط على المتكبرين الذين يرون أنفسهم فوق البشر ، كما هي صادقة في الإحساس بالحب و تقدير الناس .

  د ــ عاطفة الشاعر ححزوجة بخياله و هو يسوق الأدلة الوجدانية من الطبيعة و استطاع أن يوظف الجماليات المرئية من الطبيعة بطريقة فنية ، جعلنا نعيش مع تجربته الشعورية ووجدانه و إحساسه .  

(5) الأسلوب : 

أ __ استطاع الشاعر بلباقة فنية واضحة أن يوظف الألفاظ توظيفاً ذكياً و مع الوجدان و مع المعاني فاستخدم الألفاظ الرقيقة العذبة في مواقف الرقة و العذوبة و العتاب مثل : ( يبش ، تتوجد ، الشهد ، الابتسامة ، اللآلي ، النور ، الروضة ، طير الأراك ، الأزاهير ، النسيم الرطيب ، درب العصافير ، ............ الخ . ) و فجأة يتعالى الجرس و تجزل الألفاظ في مواقف التعالي و ال   مثل : ( صال عربد ، أرمد ، يكمد ، أدرد ، يتلبد ، .......الخ ) . 

 ب ــ كما استطاع الشاعر شأن القراء الكبار أن يعطي للألفاظ إيحاءات جديدة فالمعنى القاموسي لكلمة الطين معروف ، لكن السياق قد نقلها من المعنى المعجمي إلى معنى له دلالة على الأصل المهيمن و المنبت الوضيع لهذا الإنسان المتكبر المغرور ، مما يدعوه أن يخفف من غلوائه و زهوه و إعجابه بنفسه ثم مثّل ذلك في الإيماء الجديد و المعنى السياقي لـ( الفحمة ) و ( الفرقد ) و الخل و الشهد ، و الكوخ و البناء المطور ، لذلك الدلالة الجديدة للعواطف و الريح ، و الليل و العباب و النسيم ....... الخ ، و الألفاظ ذات الدلالات النفسية و الشعورية و الاجتماعية كثيرة جداً و لك أن تكتشف ما في ( صال ، و تيهاً ، و عربد ) من الصلف و الكبرياء و فقدان السيطرة و ضخامة التسلط  ..... الخ . 

ج ــ و برع الشاعر في تقديم ما حقه التأخير لإعطاء المعنى أهمية جديدة في مثل قوله (( و في حالة المصيبة يكمد )) ، (( فلك واحد يطل علينا )) ، (( لا أراه من كوة الكوخ أسود )) ، ليؤكد على الخداع و قلب الحقائق . 

 د ــ و برع الشاعر في استثمار المصاحبات اللغوية ، فقد استدعى لفظ المال لفظ الكيس ، و ربط بين (صال) و (تيهاً ) و بين ( الطين الحقير ) و ( اللآلي الخرد ) و بين ( الحرس الشاكي و الجدار المشيد) .  

هـ ــ و من المؤثرات الجمالية فينص الطين المحسنات التي استخدمها الشاعر استخداماً طبيعياً دون الاخلال بالمعنى ، بل ساعدت على نقل تجربته الشعورية و اثرائها النظر في ذلك إلى الاستخدام العفوي للطباق ( الفحمة و الفرقد ) (    و يكمد ) (الخل و الشهد) (الكوخ و البناء الموطد ) ( ادنى و البعد) ( تخفى و تتوقد) لبيان المفارقات بين نمطين من البشر و أسلوبين في النظرة للحياة . 

و من المحسنات البديعية الجناس (كسا و كيس ) ( كوة و كوخ ) و كذلك حسن التقسيم في ( كسا الخز جسمه فتمرد) (فلا أنا فحمة ولا أنت فرقد) . و هي محسنات أضافت جمالاً على الألفاظ و المعاني في التقابل و المقارنة و المقابلة في الأبيات 6،7،8،13....... الخ . و قد أحسن أبو ماضي في التنقل بين الأساليب الإنشائية و الخبرية و ما لها من دلالات و أنماط جديدة خرجت عن المعنى الأصلي للأسلوب . 

ففي البيتين الأول و الثاني خرج الخبر إلى غرض جديد و هو إظهار السخط و الاحتكار على الناس غير الأسوياء في نظرتهم للبشر ، كما عزز فكرة المساواة في الخبر بقوله( قمر واحد يطل علينا و على الكوخ و البناء الموطد) و قوله ( كنت طفلاً إذ كنت طفلاً و تغدو  حين أغدو شيخاً كبيراً ادرد ) . 

و طرح النداء في البيت الثالث لتعزيز المساواة ، و تأكيد اللوم و التقريع في البيت الرابع . أما الاستفهام فقد أخذ دوراً بارزاً في نص الطين و قد أفاد السخرية و التهكم كما في ( ألا تشتكي ألا تتنهد ؟ أدموعك خل و دموعي شهد؟ ) كما خرج الاستفهام للتقرير في قوله ( ألك القصر دونه المرمى الشاكي ...) و في قوله ( ألك الروضة الجميلة ...) (ألك الشهد...) و خرج الاستفهام للإنكار ، لماذا يا صاحبي التيه و الصد .  و قد لجأ الشاعر إلى أسلوب الاستفهام كثيراً للإثارة و تأكيد المعاني و تعميق إحساس القارئ بما يدور في ذهن الشاعر ووجدانه . و خرج الأمر في قوله ( فامنع الليل أن يمدّ رواقاً ذوقه ) للتعجيز و الا. 







مدونة تعلم

مدونة تعلم mourad ,,,,,

0 comments

Search This Blog